الأوروعربية للصحافة

“العالم ما بعد كورونا”.. انهيار اليقينيات وتفاهة استهلاك الرفاهيات

“لقد أصبحت فلسفة عصر ما سخافة العصر الذي يليه، وأصبحت حماقة البارحة حكمة الغد” السير وليام أوزير

وسط كل هذه التراجيديا المعولمة التي خلقها فيروس كورونا المستجد، عاد السحر إلى قلب العالم، وسيحتاج العقل إلى مدة غير وجيزة ليتماثل إلى الشفاء من التنويم المغناطيسي الذي خضع له لعقود طويلة في ظل ليبرالية متوحشة نمطت الإنسان وفق سيلان الرأسمال.

يقول جان بودريار: “لقد صار الاستهلاك أخلاق عالمنا، وهو يوشك على تحطيم مرتكزات الكائن البشري، أي التوازن الذي أقامه الفكر الأوروبي منذ اليونان بين الجذور وعالم العقل”، أي بين الأسطورة والعقل.. لذلك عادت التفسيرات القيامية إلى العالم بشكل غير مسبوق، فلا غرابة أن تتناوب القنوات التلفزيونية على عرض أفلام نهاية العالم، واجتهد الدعاة وأشباه الفقهاء والرقاة الشرعيون في رفض ما فرضه الفيروس الكوروني من حجر صحي ومنع إقامة الصلاة في بيوت الله للضرر الذي يصيب الإنسان كما في أي اختلاط بشري، وبدأوا يبشرون بنهاية البشرية على نحو تراجيدي..

تغريد الطائر السجين.. بكاء

إن الاستهلاك الشره والمتوحش يجلب الشيطان الذي يغوي العباد عن أقوم سبيل، وهو ما يستوجب العقاب، فانتعشت محكيات الدجال الذي لبس لبوس فيروس كوفيد 19.. في كل الأزمات الكبرى التي ألمت بالبشرية، كانت الأسطورة والخرافة والسحر والتمثلات الشعبية -لا أقول الدينية الحقة- تحقق إشباعا للاوعينا الجمعي؛ لكن ذلك لا يدوم طويلا، وبموجب الحكمة الإلاهية البليغة التي تتوجه دوما إلى الذين يعقلون وأولي الألباب، فهل “يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟” ذلك فضل الله يؤتيه من شاءه خليفة له في الأرض.

ولا أملك أي طاقة سحرية لمجادلة كل الأساطير والأحاجي السحرية والغيبية التي ولدها الإحساس بالرعب مع جائحة كورونا وبلحظة فناء الوجود، إذ كما يقول العالم ماكس بلانك: “لا تنتصر الحقيقة العلمية الجديدة بإقناع خصومها وجعلهم يرون النور؛ ولكنها بالأحرى تنتصر عندما يموت خصومها في النهاية، وينمو جيل جديد معتاد عليها”.

لعبة قلب السلحفاة على ظهرها لم تعد تجلب أي متعة

ستنهار اليوم كل اليقينيات التي أسندنا عليها اطمئناننا المطلق، من تأليه الإنسان والتشريع لسلطة الرأسمال العابر للقارات دون روح ولا أخلاق، فالعالم محكوم بأن يتخذ منعطفا آخر مع جائحة كورونا؛ لكن لا يقين جديد يمكن أن نعوض به ما هدمه الزلزال التاجي، فقد نؤول إلى عالم تضامني/ تكافلي بعمق إنساني خارج التبادل الاقتصادي المعولم، وقد نسير نحو أنظمة أكثر استبدادية وذات طابع بوليسي وبهويات عمياء متوحشة، لكن ما أعتقد أن البشرية بذلت كل هذا الجهد العبقري الاستثنائي في تاريخها من أجل أن تدمر نفسها بفعل فيروس حقير..

كل ما نعرفه اليوم هو أن عالمنا لن يبقى على ذات الصورة التي عهدناه عليها من قبل: اقتصاد عولمي متبادل تحتل فيه السلع المادية مركز الصدارة، محلات الرفاه الاقتصادي التي تحولت إلى محرابنا اليومي للتعبد، تسليط آلة جهنمية لتوجيه لا وعينا إلى استهلاك حتى الذي ليس ضروريا لبقائنا، إعلانات تستبد بنظام حياتنا ترسخ الاستهلاك كركن أساسي في عاداتنا اليومية حتى حولتنا إلى رهائن بلا حس ولا إدراك، وتحولت بطائقنا الائتمانية إلى ما يشبه صكوك الغفران نشتري بها المتعة، الارتقاء الاجتماعي، السعادة المُشيئة، الموضة وباقي السلع، حتى فقدنا المعنى في أبسط التفاصيل الصغيرة في حياتنا التي أصبح يقيم الشيطان في تفاصيلها، كما يقول الفرنسيون..

لقد أنهى فيروس كورونا المستجد الكثير من الحكايات التي اجتهدت في أن تمسح من عقولنا كل المسار المؤلم للرأسمال، وأن تحول السلع من شرطها الاقتصادي والاجتماعي إلى متخيل لا نملك إلا طاعته، إلاه للعصر طاغٍ ومتجبر علينا الانصياع لاستهلاك كل ما هو معروض علينا بغبطة الحواريين المتهافتين على الفتات بدافع البركة وجاذبية سحر لا يقاوم ويعجز العقل المغيب عن فك طلاسيمه.. ونسينا الجوهر الفطري فينا.

كل هذا سينهار، وكل المحكيات الإعلانية التي اجتهدت في خلق الحاجة إلى سلع لا نستهلكها بقدر ما نتباهى باقتنائها وبضائع لا ضرورة بيولوجية تدفعنا إليها أصبحت بكماء.. لا إعلان اليوم إلا عن كيفية حفظ الصحة وسلامة الحياة، غريزة البقاء تدفعنا اليوم نحو التحذير من كل ما اعتدنا تداوله في معيشنا اليومي بقدسية.. لقد انهارت فجأة كل الآلهة الحديثة تحت معول فيروس كورونا: نقود، بطاقات بنكية، شباك أوتوماتيكي، المنتوجات ذاتها التي ظلت تستعرض نفسها في الأسواق التجارية الكبرى أضحت ناقلة لعدوى فيروس كوفيد 19، لكن مقابل الكائن الافتراسي الذي ولدته فينا الليبرالية المتوحشة، نشهد ميلادا جديدا لروح الجماعة، التضامن، التكافل، وحدة الأسرة… وبالجملة روح الأخلاق التي زرعها الدين والفلسفة والشعر وباقي الفنون في قلب الإنسان.

على المستوى الكوني، أغلقت كل الدول الحدود على نفسها لتواجه قدرها بناء على تفاعل عناصر المجموعة الوطنية، الدولة نفسها تخلت عن الكثير من غريزتها القمعية وأصبحت تتوجه إلى المواطنين بحس بيداغوجي/ توعوي لتفهم الوضع والحفاظ على السلامة الصحية للكيان الوطني، وخرج كل أفراد السلطات العمومية نحو المواطنين بخطاب استجدائي يلتمس منهم البقاء في منازلهم واتباع شروط الوقاية الصحية التي فرضتها حالة الطوارئ الاستثنائية؛ بل إن وزير الداخلية قال بشكل صريح ونادر في خطابات المسؤولين المغاربة: “كلنا اليوم في سفينة واحدة، إما أن ننجو جميعا أو نغرق جميعا”.. كما أن روح المشاركة الجماعية، التي عبر عنها غالبية المجتمع المغربي بكافة شرائحه من خلال التضامن والتكافل الاجتماعي وروح البذل والعطاء والمساعدة الإنسانية والكرم الحاتمي للدولة غير المسبوق وفي عز أزمتها، قد تكون بداية لاستعادة الثقة بالمؤسسات… وإذا ما نجحت الدولة في تدبير هذه الأزمة غير مسبوقة، فإن المغرب سيكسب جهاز دولة قويا يمثل مصالح كل المجموعة الوطنية وروح مشاركة جماعية عالية كانت تنقص المغرب ليتجه نحو إقلاع تنموي نموذجي يقيم الدولة الديمقراطية والتقدم المرجو حيث تصبح الجماعة مشاركة في الإنتاج والنقد والتقويم والمراقبة والمحاسبة بحس مواطنة عالية.

إننا، بالفعل، على عتبة تغير ملحمي في مسار البشرية قد يعيد الاعتبار إلى قيم العمل الجماعي من تضامن وتكافل وإيثار وتضحية… والنموذج هو ما يقوم به ملائكة الرحمة، بدل التوجه القابلي/ النرجسي الذي شعاره: “أنا وبعدي الطوفان”…

إن كان من فضيلة لفيروس كورونا على المستوى الكوني هو أن عالم الليبرالية المتوحشة، الذي أقنع البشرية بعدالته القدرية، أصيب بجرح نرجسي.. فنحن على عتبة عالم جديد، لا نتوفر على عيون زرقاء اليمامة للتنبؤ بالشكل الذي سيكون عليه؛ لكن الأكيد اليوم أنه لن يبقى على نفس الوجه الافتراسي الذي كنا نسند رأسنا باطمئنان على وسادة كوابيسه الشيطانية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.