السياسات الاقتصادية والاجتماعية جعلت الانفجار مسألة وقت.. و”الريع” يُمنح لتثبيت الولاءات لا لتحفيز الإنتاج
في حوار مطول مع مجموعة من شباب “جيل زد” على تطبيق “ديسكورد”، مساء الاثنين 13 أكتوبر الحالي، قدم الخبير الاقتصادي المغربي نجيب أقصبي تشخيصًا عميقًا وصادمًا في الوقت نفسه لما أسماه “الحتمية التاريخية لانفجار المجتمع المغربي”، مؤكدًا أن ما تشهده البلاد اليوم من حركات احتجاجية شبابية ليس مفاجئًا في جوهره، بل نتيجة طبيعية لمسار اقتصادي واجتماعي اختل منذ عقود.
وقال أقصبي إن “هذه الحركة في جوهرها متوقعة، لأن التراكمات الاقتصادية والاجتماعية منذ الاستقلال جعلت الانفجار مسألة وقت لا أكثر”. وأضاف أن المغرب، بعد سبعين سنة من الاستقلال، لا يزال يعيش على اقتصاد لا يسمح لمواطنيه بتجاوز 4000 دولار من الناتج الفردي، وهو مستوى متدنٍّ جدًا يجعل المغرب في مراتب دنيا عالميًا.
في نظر أقصبي، فإن شرارة الغضب التي حملها جيل الشباب الجديد هي استمرار طبيعي لموجات سابقة من الاحتجاجات الشعبية؛ بدءًا من 20 فبراير إلى احتجاجات الريف وجرادة وبوعرفة. وقال: “كل تلك الحركات كانت لحظات يرفع فيها المجتمع صوته ليقول كفى، هذه الحتمية التاريخية تجعل من حركتكم اليوم امتدادًا لمسار طويل من التراكمات والإحباطات”. لكنه أضاف أن ما يميز الحراك الحالي هو وعيه الجيلي وهويته الرقمية، حيث يتحدث الشباب باسم جيل كامل له تصور خاص عن المستقبل، لا باسم فئة اجتماعية فقط.
أزمة الثقة وغياب النموذج التنموي
يرى أقصبي أن جوهر الأزمة لا يكمن في غضب الشباب فقط، بل في عجز الدولة عن تقديم نموذج تنموي حقيقي يخلق الثقة ويحقق العدالة الاجتماعية. وقال إن “ما وقع هو نتيجة طبيعية لتراجع الحريات وتدهور الحقوق وتآكل ما كان يُسمى بالممارسة الديمقراطية، ولو بحدها الأدنى. الدولة عادت إلى منطق العصا، وأي حراك تعتبره فوضى”.
وفي تحليله لأسباب فشل الحركات السابقة، قال أقصبي إن الدولة كانت تتعامل دائمًا بالمنطق نفسه؛ إنكار ثم قمع ثم تبرير. وأضاف: “منذ انتفاضة 1965 إلى 1981 و1984 و1990 ثم حراك الريف، السيناريو واحد: في البداية تُعتبر الاحتجاجات فوضى، والجواب هو العصا. واليوم نعيش عودة صريحة إلى تلك الأساليب”.
يرى أقصبي أن ما يعيشه المغرب ليس فقط أزمة اقتصادية، بل أزمة ثقة عميقة، حيث “الحكومات المتعاقبة لم تحقق حتى الحد الأدنى من الإصلاح في التعليم أو الصحة أو محاربة الفساد، رغم كل الوعود”. والدليل، كما يقول، هو أن “نحن في سنة 2025 وما زلنا نتحدث عن إصلاح التعليم وإصلاح الصحة ومحاربة الرشوة. هذا يعني أن الدولة لم تتعلم شيئًا من الماضي”.
“جيل زد” والأزمة المزدوجة
وانتقل أقصبي إلى تحليل وضع الشباب المغربي في الاقتصاد، مشيرًا إلى أن “جيل زد” يعاني من أزمة مزدوجة تتمثل في غياب التعليم والتكوين، وغياب الشغل. وأوضح أن أكثر من مليون ونصف شاب بين 15 و24 سنة يوجدون اليوم خارج المدرسة وسوق العمل والتكوين. وأضاف: “إذا مددنا الفئة العمرية إلى 35 سنة، فنحن أمام أكثر من 4.3 ملايين شاب لا يتعلمون ولا يشتغلون ولا يتدربون. هذا الرقم مرعب”.
واعتبر أقصبي أن المغرب يعيش “نهاية الانتقال الديموغرافي”، أي مرحلة تحول فيها الشباب إلى كتلة بشرية ضخمة تبحث عن العمل ولا تجده، ما يجعلهم عبئًا بدل أن يكونوا فرصة للنمو. وذكر أن “في بلدان أخرى، الشباب المتعلم يشكل قوة اقتصادية ترفع النمو، أما عندنا فالعكس تمامًا، شباب بلا تكوين ولا شغل يشكلون عبئًا على الاقتصاد ويضغطون عليه نزولًا بدل أن يدفعوه صعودًا”.
وبلغة الأرقام الدقيقة، كشف أقصبي أن الاقتصاد المغربي يخلق بين 50 و70 ألف منصب شغل في السنة فقط، في حين يدخل إلى سوق العمل أكثر من 200 ألف شاب سنويًا. وقال: “هذا يعني أن ثلث الداخلين فقط يجدون عملًا، والباقي يبقون عاطلين. والأسوأ أن السنوات الخمس الأخيرة فقد فيها الاقتصاد أكثر من 300 ألف منصب شغل، أي بمعدل ستين ألفًا في السنة. نحن أمام اقتصاد لا يخلق الشغل، بل يهدم ما تبقى منه”.
وانتقل الخبير الاقتصادي إلى تشخيص بنية النمو قائلاً إن “معدل النمو في المغرب خلال السنوات العشر الأخيرة لم يتجاوز 2.7 في المئة. حتى في أحسن التقديرات، لم يصل إلى ثلاثة في المئة. وهذا معدل ضعيف جدًا لا يسمح بخلق فرص العمل أو تحسين مستوى العيش”. وأوضح أن “أي بلد يريد أن يتحسن فيه الدخل وتقل البطالة يحتاج إلى نمو مستمر بمعدل لا يقل عن سبعة إلى ثمانية في المئة على مدى عقدين على الأقل”. ثم أضاف ساخرًا: “بعض الصحف الموالية للحكومة تقول إن المغرب بلد صاعد. أي صعود هذا ونحن دون ثلاثة في المئة؟”.
الاقتصاد في انتظار المطر والمستثمر
ولم يكتف أقصبي بتشخيص الأرقام، بل وضعها في سياقها التاريخي، قائلًا إن “المشكل الحقيقي هو أن محركات الاقتصاد المغربي ليست وطنية. نحن نعتمد على عاملين لا يمكن التحكم فيهما، وهما المطر من السماء والاستثمارات من الخارج”. وأضاف: “إذا كانت السنة ممطرة يتحسن الاقتصاد، وإذا جاءت جافة يتراجع. وإذا كانت أوروبا في أزمة تتأثر صناعتنا. نحن في انتظار دائم، إما انتظار المطر أو انتظار المستثمر الأجنبي أو السائح الأجنبي. وهذه ليست سيادة اقتصادية”. لذلك يرى أن جوهر الأزمة هو “غياب محرك داخلي حقيقي للنمو، قائم على الإنتاج الوطني المستقل والاختيارات الاجتماعية العادلة”.
ثم تطرق إلى قطاع الفلاحة الذي يعتبره أصل الخلل، قائلاً إن “السياسات الفلاحية منذ الستينات رهنت البلاد للفلاحة التصديرية، لا للفلاحة التي تلبي حاجات المغاربة”. وأوضح أن الدولة اختارت منذ البداية ما سماه “رهان البنك الدولي” القائم على توجيه الزراعة نحو الأسواق الأوروبية، على حساب الأمن الغذائي الوطني.
واعتبر أن “مخطط المغرب الأخضر” الذي أُطلق سنة 2008 عمّق الأزمة المائية بدل أن يحلها. وقال إن هذا المخطط “لم يخلق الأزمة لكنه سرّعها ووسعها، فمثلًا شجع دعم السقي الموضعي الفلاحين الكبار على حفر الآبار واستنزاف الفرشات المائية، فارتفع الضغط على الماء بطريقة مروعة”. وأوضح أن “الدولة قدمت دعمًا مباشرًا يصل إلى مئة في المئة للتجهيز بالسقي الموضعي، دون أي مراقبة أو تخطيط، فانتشرت الفوضى وجفّت الفرشات المائية”. وأضاف: “المفارقة المضحكة المبكية أن الدولة اليوم تدعم بالمال العام فلاحين كبارًا ليستنزفوا المياه الجوفية وينتجوا مواد للتصدير، بينما المغاربة يعانون من العطش”.
الريع والسلطة
وفي تشخيصه لطبيعة النظام الاقتصادي، وصف أقصبي المغرب بأنه “اقتصاد ريعي بامتياز”. وشرح أن “الريع هو الدخل الذي يأتي دون عمل أو مخاطرة”. وضرب مثالًا بما يسمى “الكريمات”، التي تمنح امتيازات نقل أو صيد بحري أو استغلال أسواق الجملة لأشخاص مقربين من السلطة. وقال إن “الريع يعني أن تجلس في بيتك ويأتيك المال من الامتياز، لا من الجهد”. وأضاف أن “النظام السياسي استخدم الريع كأداة لبناء التحالفات وتثبيت الولاءات”.
وأوضح أن الريع لا يقتصر على قطاع النقل أو الصيد، بل يشمل الفلاحة والمعادن والرمال والمناجم وحتى البنوك والأسواق الكبرى. وقال: “لدينا قطاعات قليلة تحتكر السوق، تتعامل كما لو كانت واحدة، فتحدد الأسعار وتمنع المنافسة”. وضرب مثالًا بقطاع المحروقات، حيث “ثلاث أو أربع شركات تتفق على الأسعار، فتتحكم في السوق وكأنها شركة واحدة”. وأضاف: “ما لدينا ليس سوقًا حرة بل سوق متواطئة، تُدار بالمصالح لا بالقانون”.
وفي حديثه عن التعليم والشغل، قال أقصبي إن الأزمة في جوهرها نتيجة غياب رؤية وطنية حقيقية. وقال: “الشباب اليوم يعانون لأن التعليم فشل في تكوينهم، ولأن سوق العمل لا يحتاج إلى ما تعلموه”. وأضاف أن المغرب يعيش مفارقة خطيرة، حيث “في كل سنة يغادر مئات الآلاف المدرسة نهائيًا، بينما الاقتصاد لا يخلق فرصًا كافية حتى لحاملي الشهادات”. لذلك يرى أن “الأزمة ليست فقط في الاقتصاد بل في الخيارات السياسية التي جعلت التنمية تخدم الأقلية وتقصي الأغلبية”.
رسالة إلى الشباب
واختتم أقصبي حواره بكلمة موجهة إلى الشباب قائلًا: “جيلكم لم يعد يطلب المستحيل، يطلب فقط أن يعيش بكرامة في بلد تتساوى فيه الفرص. وهذا حق، لا فضل من أحد”. وأضاف: “ما تقومون به اليوم جزء من حركة التاريخ، وهي مشروعة في جوهرها. المشكل ليس فيكم، بل في نظام اقتصادي وسياسي لم يعد قادرًا على تجديد نفسه”. وأكد أن التغيير الحقيقي لن يأتي إلا من الوعي الجماعي، “فحين يدرك الناس أن المشكل بنيوي، وأن الإصلاحات التقنية وحدها لا تكفي، سيبدأ التحول الفعلي”.