ونتيجة الحظر الغربي على وسائل الإعلام الروسية، بطريقة تخالف كل ما يعظ الغرب العالم به يوميا من حرية رأي وخطب أخلاقية وخلافه ثبت أنها مجرد نفاق على أقل تقدير، نسي العالم ما قاله الروس في البداية أنهم تدخلوا عسكريا حماية لأمنهم القومي ولاجتثاث “النازيين الجدد” من أوكرانيا. وقوبل المبرر الأخير بالتندر وسوق حجة أن رئيس أوكرانيا من أصل يهودي فكيف يكون هناك نازيون جدد في أوكرانيا.

نعم الرئيس الأوكراني تعرضت أسرته لاضطهاد النازية الألمانية وفرت من أوكرانيا إلى بولندا حيث تربى هناك. لكن ذلك لا يعني أن تيارات اليمين المتطرف، ومنها جماعات النازيين الجدد تنمو بقوة في أوكرانيا منذ سنوات. صحيح أن ممارساتها العنصرية لم تكن تحت ضوء التغطيات الإعلامية، لكنها لا تختلف عن نمو تيارات اليمين المتطرف في الغرب بشكل عام في الفترة الأخيرة.

قبل يومين نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية تقريرا عن سلاح مضاد للمدرعات تصنعه إسرائيل وسنغافورة وشركة ألمانية ظهر بقوة في ساحة المعارك بأوكرانيا. وتقول الصحيفة إن من يستخدم هذا السلاح هي كتيبة آزوف من “النازيين الجدد”. إذا هناك نازيون جدد في أوكرانيا كما قالت موسكو من البداية، ليسوا فقط جماعات هامشية أو على أطراف المجتمع والسياسة، بل مكون مهم في القوات الأوكرانية.

تلك الجماعات المتطرفة والعنصرية هي التي تتلقى الدعم الغربي المتزايد، وفي مقدمته الدعم الأميركي. كانت أوكرانيا واحدة من الهنات التي استخدمها الديمقراطيون في أميركا لمحاولة النيل من الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب. لكن الواضح أن الديمقراطيين هم أكثر “غرقا” في شؤون أوكرانيا من الجمهوريين ولسنوات سابقة حتى لوصول الرئيس زيلينسكي إلى السلطة.

كذلك سمعنا وقرأنا تحليلات وتعليقات كثيرة عن أن فترة رئاسة ترامب كانت عامل دعم لصعود قوة اليمين المتطرف والجماعات العنصرية بما فيها نازيون جدد، ليس فقط في أميركا بل في الغرب عموما. إنما الواضح أن الأمر لا يقتصر على حزب بعينه ولا على رئيس “شعبوي” من خارج المؤسسة السياسية مثل ترامب. بل إن الديمقراطيين، وفي مقدمتهم الرئيس الحالي جو بايدن، لم يقصروا في الدعم المباشر وغير المباشر لتلك التيارات. ولم نكن في منطقتنا بعيدين عن ذلك، ففترة رئاسة أوباما وبايدن كانت فترة صعود للتيارات المتطرفة هنا أيضا وفي مقدمتها جذرها الرئيسي، جماعة الإخوان الإرهابية.

الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وفي مقدمتهم بريطانيا، تدعم تلك الجماعات اليمينية وكتيبة النازيين الجدد في الجيش الأوكراني بقوة. ليس فقط لأنه من حق الأوكرانيين الدفاع عن بلدهم في موجهة هجوم عسكري داخل أراضيهم أيا كان مبرره، وإنما بالأساس لأن تلك المجموعات – التي لها من يمثلها في تركيبة السلطة في كييف – يمكن أن تكون أفضل أداة لأميركا والغرب لإنهاك روسيا واستنزافها بما يخرجها تماما من الاستراتيجية التي أعلن عنها بايدن قبل انتخابه: التصدي لصعود روسيا والصين، وبناء تحالف غربي تقوده واشنطن في هذا السياق، أي استرداد الدور الأميركي في العالم. ربما يفسر ذلك إقدام روسيا على التدخل العسكري في أوكرانيا، وبشكل استباقي للقضاء على تهديد مباشر مدعوم غربيا كما أعلنت في البداية. ولم يكن موضوع توسع حلف الناتو شرقا إلى حدود روسيا سوى الموقف الرسمي على أساس توقع موسكو أن العالم سيتفهم حربها.

لم تحقق روسيا إنجازا عسكريا سريعا كما كانت تتوقع، ومع أن ذلك يبدو إخفاقا للآلة العسكرية الروسية جعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يهدد باستخدام الأسلحة النووية، إلا أن الدور الأميركي في دعم المقاومة الأوكرانية للقوات الروسية لعب الدور الأهم وما زال. وما تهديدات روسيا المتكررة بأنها ستعتبر الدعم العسكري لأوكرانيا من الدول الغربية عدوانا يستحق الرد سوى تعبير عن إدراك موسكو لأهمية ذلك الدعم، والأميركي خصوصا.

تبدو الإدارة الأميركية حتى الآن وكأنها لا تتدخل عسكريا، إنما تستخدم سلاح العقوبات على روسيا لخنقها اقتصاديا. لكن الواقع أن الحصار الاقتصادي يوازيه عمل عسكري، وإن كان بشكل غير مباشر. فهذا الأسبوع نشرت صحيفة التايمز البريطانية تقريرا عن وجود طائرة استطلاع أميركية، هي أحدث ما في ترسانة الأميركيين لرصد وتتبع الغواصات والسفن، بالقرب من موقع المدمرة الروسية موسكفا التي أغرقت في البحر الأسود قبل وقت قليل من قصفها بصاروخ أوكراني كما أعلنت كييف. وواضح من رصد الطائرة البوينغ P8 Poseidon في الساعات السابقة على حادث المدمرة أنها كانت ترصدها. ومع أن تقرير الصحيفة البريطانية لا يقطع بأن الأميركيين حددوا موقع المدمرة وأرسلوا الإحداثيات بدقة للأوكرانيين لقصفها، إلا أن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اعترف للمرة الأولى علنا الشهر الماضي بأن الجيش الأميركي يتشارك معلومات استخباراتية مع أوكرانيا. لكنه قال إن ذلك عن شرق البلاد.

حتى لو كانت أميركا تشارك في الحرب في أوكرانيا، فإنها حتى الآن ستحافظ على أن يكون ذلك بشكل غير مباشر. ليس فقط لتفادي حرب عالمية كما يقال علنا ولكن لحرمان موسكو من أي مبرر لتصعيد حربها أو تحسين موقفها في حال التفاوض. كما أن ذلك يسهل مهمة استنزاف رويا على الأمد الطويل مع توفير التبرير الرسمي الأميركي والغربي لأي إجراءات أشد وأقسى ضد موسكو.