الأوروعربية للصحافة

ابن خلدون ينتقد جودة التعليم بالمغرب ويعطينا إشارات لإصلاحه

 

وأنا أقرأ وأقلب كتاب “مقدمة ابن خلدون” فوجئت بما قاله هذا العالم الكبير منذ ستة مائة سنة عن تعليمنا بالمغرب. لقد مارستُ مهنة الإرشاد التربوي بالتعليم لمدة طويلة كما أنني مارست مهنة التدريس والبحث العلمي بالجامعة داخل وخارج المغرب لمدة طويلة أيضا، وحضرت عدة لقاءات ومؤتمرات حول تقييم جودة التعليم بالمغرب. لكن ما قاله ابن خلدون عن تعليمنا كان عين العقل ولب الصواب، حين قال في مقدمته: “وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتصل سند التعليم فيهم فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم. وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرماها. فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم ثم بعد تحصيل ما يرى منهم قد حصل تجد ملكته قاصرة في عمله إن فاوض أو ناظر أو علم، وما أتاهم القصور إلا قبل التعليم وانقطاع سنده. وإلا فحفظهم ابلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به، وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك”.

ويزيد ابن خلدون في مقدمته حيث يقول: “ومما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ستة عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين. وهذه المدة بالمدارس على المتعارف هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدة لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سواها ذلك”.

وفعلا ما قاله ابن خلدون سابقا يبقى صالحا إلى يومنا هذا. فمثلا في كل التقويمات للإصلاحات الجامعية السابقة كانت تلتقي في نقطة واحدة وهي مشكلة التواصل عند الطلبة وحتى عند بعض الأساتذة الجامعيين. لأن الأساتذة داخل الجامعات المغربية ليس لهم تكوين بيداغوجي ولا ديداكتيكي. وبالتالي فور حصولهم على الدكتوراة في تخصصهم الدقيق يلتحقون بسلك التدريس. هكذا فالأستاذ الذي لم يسبق له أن تمرس على التواصل مع الآخرين ومحاورة أصدقائه منذ أن كان طالبا شابا فقد يصعب عليه إيصال المعلومة العلمية إلى الطلبة على أحسن وجه. هذا يدل على أن مستوى التواصل عند الطلبة بصفة عامة جد ضعيف، مما يجعلهم في كثير من الوقت صامتين ولا يطلقون العنان لألسنتهم بفتح نقاش حول قضايا علمية وثقافية. وكل هذا يفوت عليهم فرصة التلقي والتعلم بطرق جديدة وحديثة فيها نوع من الحرية، خارج أسوار المدرجات وبعيدا عن ضغط الأساتذة، وبطريقة لا يحسون أن فيها تكليفا أو خوفا. وهذا النوع من التلقين والتعليم هو الذي يمكن أن يساعدهم على الفهم والاستيعاب بسهولة وبدون عناء أو مجهود خارق. لأن الطالب يشعر أنه يقوم بعمل يحبه لأنه يناقش مضمونه ويدافع عن رايه وفكرته بعد شرحها بالحوار بعد ذلك ينصت ويستفسر. وهذا أراه من أحسن الطرق لتكوين وبناء شخصية الطالب.

فالطالب الذي لا يستطيع أن يعبر عن أفكاره بوضوح وعن ما يحس به بدون خوف او حرج، ويدافع عن قناعاته بأسلوب علمي وحضاري بجدية وحماس، حتى يصبح ذلك عادة من عاداته الطبيعية التي تبصم شخصيته، لا يمكن ان يطور هذه الأفكار والقناعات ويصبح رصيده المعرفي جد محدود. كما أن تحليله للواقع وللمواضيع المطروحة والأحداث الساخنة يكون سطحيا. وكما نعلم ان تلاقح الأفكار ومخاضها هو الذي يعطينا الابداعات والأفكار الجيدة. فكما يقول المثل الأمريكي: إذا أعطيتني فكرة وأعطيتك فكرة، فكل واحد منا تصبح له فكرتين. أما إذا أعطيتك دولارا وأعطيتني دولارا فسيصبح لكل واحد منا دولارا واحدا فقط. وبالتالي فالأفكار كلما تقاسمناها بيننا عبر المناقشة والحوار الهادف كلما نمت وتطورت إلى الأفضل واستفاد منها الجميع.

مع الأسف أن في الإصلاح الجامعي الأول وقع خلط بين التواصل واللغة الفرنسية، ظانين أنه من حصل على اللغة الفرنسية فهو حاصل على قدرة التواصل. لهذا عملوا على إحداث وحدة مشتركة بين عديد من المسالك أطلقوا عليها اسم “التواصل” لكن في الحقيقة لم تكن وحدة من أجل بناء قدرة على التواصل عند الطلبة بقدر ما كانت وحدة يحاولون من خلالها تطوير وتحسين اللغة الفرنسية عند الطالب. والنتيجة أن الطلبة لم يحسنوا اللغة الفرنسية ولا القدرة على التواصل التي تحدث عنها ابن خلدون حين قال “…وأيسر طرق الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرماها…”

في رأيي علينا أن نُعلم الطلبة والأساتذة على حد سواء فن الحوار وفن الانصات إلى الآخر وفهمه، بل تفهمه، وفن المناقشة الهادئة والهادفة بأي لغة كانت: عربية أو أمازيغية أو بالدارجة أو بالفرنسية أو بالإنجليزية أو بأي لغة كانت. المهم أن نكون مدركين ومستوعبين ما يقال. وفي أي حوار ليست اللغة هي المهم، بل الأفكار هي التي يجب أن تهيمن على الحوار، والوصول إلى أفكار جيدة ومفيدة يجب أن يكون هو الهدف الأسمى لهذا الحوار.

مؤخرا حضرت لمؤتمر دولي بدويلة صغيرة توجد بين اسبانيا وفرنسا تسمى “أندورا” وحضر هذا المؤتمر أزيد من ستة وثلاثين دولة بلغاتهم المختلفة، لكن كنا نفهم بعضنا البعض لأن المنظمين لهذا المؤتمر استعانوا بوسائل الترجمة الآنية وبتكنلوجيا حديثة التي أصبحت في المتناول. ووقع انسجام كبير بين المؤتمرين، واستفدنا كثيرا من بعضنا البعض، وبعد ذلك نسجنا علاقات علمية وثقافية وإنسانية فيما بيننا رغم لغاتنا المختلفة والمتباينة. في هذا المؤتمر استفدت كثيرا من محاضرة ألقتها مهندسة من “أرمينيا” ومن محاضرة ألقاها أحد المسؤولين من “إرلندا”، وعندما عدت إلى المغرب راسلني عدد لا باس به من المؤتمرين حيث عبروا عن رغبتهم في التعاون معنا في ماستر السياحة المسؤولة والتنمية البشرية بجامعة عبد المالك السعدي وأن محاضرتي التي كانت تحمل عنوان “بيو-اقتصاد” Bioeconomy راقتهم كثيرا.

لكل هذا وذاك ولكي نصلح ما يمكن إصلاحه داخل تعليمنا بالمغرب وقبل فوات الأوان، أظن أنه أصبح من واجبنا أن نعلم أبناءنا التلاميذ والطلبة فن الحوار والمناقشة ونحبب إليهم فن الكلام والمحادثة والتعبير عن شعورهم واحاسيسهم منذ الصغر وأن لا نقمعهم. هذا ليس كلامي بل هو كلام ورأي العالم الكبير والرحالة المشهور ابن خلدون الذي قاله منذ ستة مائة سنة. في الحقيقة هذا العالم الفذ مؤسس علم الاجتماع، باعتراف علماء أوروبا وأمريكا، أعطانا إشارات واضحة يجب التقاطها بذكاء وبصدر رحب وبروح المواطنة الصادقة ونشتغل عليها ونطبقها لنرقى بتعليمنا ونطوره بها بعيدا عن كل الحزازات والأنانيات.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.