لا زال مركز الفن الحديث بتطوان، منذ إحداثه في العام 2013، يضطلع بدور الحاضن والفاعل كذاكرة تشكيلية حية تمّد جسور الثقافة المغربية بين الماضي والحاضر في حالة من التوازن والتمازج تضمن للزائر رحلة بصرية قلما يجدها في فضاءات مماثلة.
وفي جولة بالمركز الذي يحتوي على أكثر من مئتي لوحة تشكيلية وتسع عشرة منحوتة تطفح بحرارة الحياة، يقف المُشاهد على مجموعة من الأعمال التي تمثل التجربة الفنية التي احتضنتها مدينة تطوان عبر تاريخ الفنون التشكيلية المغربية، حيث إن المدينة كانت ولا تزال ملتقى للعديد من الفنانين الذين توافدوا عليها منجذبين بجمالها ومركزها الإبداعي المتميز.
وساهم في ترسيخ هذا المسعى إحداث المدرسة الإعدادية للفنون الجميلة بتطوان في العام 1945، من قبل مديرها الأول الفنان الغرناطي ماريانو برتوتتشي، وتأسّست بصفة رسمية في العام 1946.
وينقسم المسار المتحفي إلى أربعة فضاءات حسب التسلسل التاريخي وموضوعاتها المختلفة، وذلك عبر أعمال تحاول تقديم نظرة استعادية للذاكرة التاريخية المشتركة بين الأندلس والمغرب، وتقدّم للزائر رحلة بصرية وفنية تمتد لحوالي نصف قرن من الزمن، إذ تحتوي القاعة الأولى من البناية على نماذج فنية من مدرسة تطوان التشكيلية، وتضم المؤسّسين الرواد من سنة 1913 إلى سنة 1956، من بينهم الفنانون مريانو بيرتوتتشي ومحمد السرغيني وكارلوس كاييكوس.
وتحتوي القاعة الثانية على أعمال الفنانين المغاربة الذين أسّسوا للهوية التشكيلية المغربية من سنة 1956 إلى سنة 1979، ومنهم المكي مغارة وعبدالله الفخار وسعد بن سفاج. وتحاور أعمالهم الذاكرة المشتركة ومحاولة تجاوز التقاليد التشكيلية المنتمية إلى مرحلة الحماية الفرنسية، كما عملوا على تحديث التعليم الفني المغربي كأساتذة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، بجانب مدرسة الدار البيضاء التشكيلية التي أحدثت في العام 1952.
وعرف هذا الجيل بتنوّع أبحاثه وتعدّد اهتماماته الهادفة إلى إشعاع التشكيل المغربي، إذ توّجت مجهوداتهم وطموحاتهم بتأسيس الجمعية المغربية للفنون التشكيلية في العام 1972، التي لعبت دورا محوريا في التعريف بالفن المغربي على المستوى الدولي.
وتضم القاعة الثالثة التي انفتحت أعمالها على معارض الربيع، أعمالا من سنة 1979 إلى سنة 1993. وانطلقت هذه التجربة بحدث مهم تجلى في إقامة معرض الربيع سنة 1979، الذي نظمه أربعة فنانين، ثلاثة منهم حديثو العهد بالتخرج من معاهد أوروبية مختلفة، وكانت للمعرض العديد من الأهداف، في مقدّمتها انفتاح الفن على الجمهور الواسع من خلال العرض في الهواء الطلق بساحة الفدان.
وتحتوي القاعة الرابعة على التوجهات الجديدة للتشكيل منذ العام 1993 وإلى الآن، وتضم أعمال العديد من الأسماء الفنية، من بينها عادل الربيع ومونية التويس وبلال الشريف، قوامها التنوّع في التجارب والأساليب، ورغم خصوصية مشروعها المفاهيمي، إلاّ أنه يمكن اعتبارها استمرارا لتراكم الماضي وانطلاقة لجيل جديد من الاكتشاف التشكيلي المنفتح على الفن العالمي المعاصر المطبوع بالتحرّر الفكري والتقني.
ويؤكّد مدير المركز، الفنان بوزيد بوعبيد أن من أهم الإيجابيات التي أغنت جمالية مدينة تطوان تنوّع عنصرها البشري، إذ استقطبت هذه الحاضرة سكان الجبل والريف والأندلس وفاس والجزائر واليهود والمسيحيين، وهو التنوّع الذي أنتج مجتمعا متحضرا ثقافيا واجتماعيا وفنيا.
وعن المركز يقول “هو يروي ويشخّص تراثا بصريا عريقا لمدينة تطوان وفنونا تراثية لها هوية أصيلة ومتميزة راكمتها عبر قرون من التطوّر والارتقاء ازداد بهاء في العقود الماضية”.
ويضيف “رغم الاختلاف والتباين في ما جسّدته الأعمال الفنية التي تؤرّخ للتجربة التشكيلية بتطوان بأجيالها المتعددة، فإنها تعكس الحساسيات الجمالية والرصيد الإبداعي لأجيال متلاحقة، قدّمت مجتمعة قواسم مشتركة لهوية فنية مغربية أضحت مرجعية ليس في خارطة العالم العربي، ولكن أيضا في خارطة العالم الفنية”.
وبوزيد بوعبيد من مواليد 1953 بتطوان، تخرّج من مدرسة الفنون الجميلة سنة 1975 قبل أن يكمل دراسته الأكاديمية بإسبانيا وبلجيكا، وهو من القلائل الذين خضعوا لتدريب في علم المتاحف وآخر في مجال ترميم وإصلاح الأعمال الفنية، وقام بتدريبات ميدانية وزيارات متعددة للمتاحف الحديثة والمعاصرة في عدد من البلدان الأوروبية أغنت تجاربه ومعارفه وأهلته لإدارة متحف تطوان للفن الحديث.
وهو إلى جانب ذلك رسام محترف ارتبط اسمه بالجيل الجديد لمدرسة الفنون الجميلة بتطوان، كما ارتبط اسمه ولمع في “معرض الربيع” بتطوان نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي لتتوالى معارضه الفردية والجماعية بعدها.
وتحمل أعمال بوعبيد الفنية هوية متجددة ومتفرّدة، وهي تتردّد ما بين التشخيص والتجريد، ما منحه لونه التشكيلي الخاص، وشكله الاستثنائي وظله الممتد في تجارب الأجيال اللاحقة.
ويستقطب مركز الفن الحديث بتطوان إلى جانب معرضه الدائم العديد من الورشات التربوية والمعارض المحلية والدولية، إلى جانب العديد من الأنشطة الفنية التي تهدف إلى تنمية ونشر الوعي الثقافي بين الأجيال، بالإضافة إلى تشجيع الطلبة على إثراء معلوماتهم وتنمية حب الاستطلاع لديهم عن طريق إقامة ندوات و لقاءات مفتوحة.