https://www.facebook.com/abdelouahab.idelhadj.1
رزقني الله الحفيدة السادسة، سميت “إسراء”، اللهم انبتها نباتا حسنا، الحمد لله على عطائه،
بهذه المناسبة أهديكم المشهد السادس من روايتي الجديدة “عتاب بقرة قرطبية” وهو من أهم مشاهد هذه الرواية يحمل عنوان “كيف تخليتم عن مبادئكم؟”،
المشهد السادس
كيف تخليتم عن مبادئكم؟
عندما باحت لي البقرة القرطبية بأسرارها الغريبة والخطيرة منها أنها في الأصل أميرة وليست بقرة، وأنها عالمة و شاعرة وكاتبة ومعارضة ايضا… في البداية استغربت لهذا الامر وتركته سرا بيني وبينها لكي لا تأخذها الامبريالية المتوحشة وتضعها في قفص داخل سرك وتطوف بها العالم وتربح أموالا طائلة من وراء هذا العجب العجاب، وتصبح هذه البقرة مدجنة كما اصبحنا نحن مدجنين في القنوات الفضائية بفصاحة لغتنا وتحليلاتنا المطولة والمتكررة والمملة طيلة اليوم، يسخر منا مشاهدوا قنوات العالم وكل من هب ودب. والغريب في الأمر أننا الأكثر تحليلا على الفضائيات وعبر الأثير لكننا الأكثر تخلفا على الأرض.
بعدما اقتنعت بما قالته لي هذه القرطبية وبطرحها بدأت أحاول مساعدتها لإنقاذها وارجاعها كما كانت من قبل، أميرة جميلة وعالمة وشاعرة. فدخلت عالما عجيبا وغريبا، لن تستوعبوه إلا بعد توغلكم في قراءة هذا الكتاب. فقد عشت مع هذه البقرة القرطبية مغامرات سريالية لا يمكن تصورها ولو في الخيال، كانت فعلا مغامرات جنونية وسندبادية.
عندما طلبت مني الأميرة أن أبحث لها عن القارورة الموجود بها السائل الأصفر الذي إذا شربته ستتحول من بقرة إلى أميرة جميلة وكاملة الأوصاف، لم أتصور قط أنه بإمكاني أن ألبي هذا الطلب الغريب بالخصوص وأن هذه القارورة اختفت منذ سنة 1227م. يعني ثمانية قرون تقريبا. لكن حبي الكبير لهذه المخلوقة جعلني مستعدا لأحقق المستحيل من أجل إسعادها. فبلاغة لغتها وفصاحة لسانها وسلاسة تعبيرها ووضوح مداركها وروعة أفكارها وغزارة علمها وشساعة خيالها جعلني مشدودا إليها ومتشبثا بها ومنتشيا برفقتها فأصبحت رفيقي الوحيد. أما تجربتها الطويلة وصبرها الجميل فجعلني أقدرها وأحترمها بل أكثر من هذا، ولا أخفيكم سرا إن قلت لكم، إنني أصبحت أسيرا لحبها. وتحت تأثير عشقي لها فاق اهتمامي بها كل التوقعات.
أميرتي القرطبية هاته صارت مؤنسة لوحدتي بقرطبة أزورها كل يوم، أحاورها أناقشها فأستفيد من معرفتها وعلمها وأستريح لدعابتها. قصتي مع هذه القرطبية أصبحت مشهورة إلى درجة أن كل الناس بقرطبة يتغامزون من حولنا. ورغم أني أستاذ جامعي وحائز على دكتوراه الدولة منذ زمن بعيد، بدأت أبدو أمام غزارة معارفها وتنوع علومها ووضوح رؤيتها ومداركها كقزم صغير دون المستوى المعرفي الذي تتمتع به هذه البقرة الأندلسية!!
قوة اقتراحات الأميرة تكمن في بساطتها، فكما قالت لي هذه العالمة القرطبية التي أحببتها حتى النخاع وتضامنت معها بدون شرط أو قيد: البساطة تصنع الجمال أما أنتم فتبحثون عن حلول معقدة لمشاكل بسيطة. فما دمتم على هذا الحال فسوف لن يتغير حالكم. وشرحت لي قول الله تعالى “إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم” ببعد آخر فهمت منه أن التغيير لا يقتصر فقط على الصلاح بل أيضا على الفهم فإن كان فهمكم للأشياء خاطئا ومغلوطا فسوف لن يتغير حالكم وإن كنتم صالحين.
ورغم أني من النوع الكتوم اشتكيت لهذه القرطبية العالمة حال ومآل منظومتنا التربوية وكيف أصبحنا نجتر نفس الأعطاب البنيوية التي لازمتنا منذ زمن بعيد ولم نستطع الخروج من هذه الدوامة إلى يومنا هذا. وعندما قلت لها أن الحقل التربوي والتعليمي عندنا أصبح حقلا صراعيا بامتياز، وتداخلت فيه مصالح الفئات المجتمعية، ورهاناتها الإديولوجية سواء المعلنة والمصرح بها، أو الخفية والمسكوت عنها. أجابتني بثلاث أسئلة: ما ذا تريدون بالمدرسة؟ وما هي الغايات الكبرى التي تسعون لتحقيقها؟ وما هو نوع المواطن الذي تريدون تخريجه من هذه المنظومة التعليمية؟. في الحقيقة لم استطع الاجابة عن هذه الأسئلة الحارقة.
قالت لي الأميرة: أنت أستاذ جامعي وليس لك جواب لهذه الأسئلة التي تعتبر من المبادئ الأولية وأبجديات بناء منظومة تربوية وتعليمية في أي بلد كان، فما بالك بالناس العوام. لقد كان عتابها لي ولكم هذه المرة قويا وقاسيا إلى أبعد حد، ومن خلال التشخيص الذي وصلت إليه أميرتنا لوضعنا التعليمي الحالي والحلول الناجعة التي اقترحتها رغم بساطتها، تبين لي أن هذه البقرة لو كانت وزيرة للتعليم والتربية لحلت كل مشاكلنا التعليمية العالقة بهدوء وبدون تشنج، ولأصبحت جودة تعليمنا أنموذجا، يضاهي جودة تعليم الدول المتقدمة.
سكتت أميرتنا القرطبية قليلا ثم اقتربت مني وبدأت تمسح وجهها بيدي عربونا على أن شعرة معاوية ما زالت قائمة بيننا ولم تقطع بعد، رغم عتابها العنيف، لأنها تعرف جيدا أنني مرهف الاحساس. وهذا تصرف تربوي راق اعتدته من هذه الأميرة، كون أنها تقول الحقائق كما هي لكن لا يغيب عنها أنها تخاطب إنسانا له أحاسيس وشعور وكرامة وبالتالي لا تنس “البهاء الانساني” الذي افتقدناه.
بادلتها نفس الإحساس حيث مسحت وجهها بيدي اليمنى وباليسرى مسحت على رأسها وضممتها إلى صدري فاقتربت أكتر ودنت مني ثم همست في أدني بصوت خافت وحنين قائلة: ما بكم؟ وماذا وقع لكم؟ وكيف سلبوا منكم إرادة التحكم في شؤونكم؟ وحل مشاكلكم بأنفسكم؟ وكيف تخليتم عن مبادئكم؟ وأشياء أخرى خطيرة جدا سأحكيها لكم في ما تبقى من هذا الكتاب إن شاء الله، فصبرا جميلا.