تونس… صراع السلط أم نهاية ثورة؟!

عبد الرحيم رقيب

سؤال يطرح نفسه منذ اعلان الرئيس التونسي قيس سعيد حالة الاستثناء و معها جملة من التدابير من قبيل إعفاء رئيس الحكومة و تجميد عمل البرلمان و تولي رئيس الدولة سلطة الاتهام (النيابة العمومية) طبقا للفصل 80 من دستور تونس لسنة 2104 ، لكن قبل الخوض بالموضوع لابد من اطلالة سريعة على دستور تونس المؤطر لشكل النظام السياسي و كذا للسلطات بالبلاد والعلاقة بينها لنقارب الجواب الذي قسم رجال السياسية واساتذة القانون الدستوري والشارع التونسي لقسمين.

تجدر الاشارة الى ان تونس تعتبر مهد ثورات الربيع العربي (ثورة الياسمين 14 يناير 2011 واسقاط نظام بن علي) ، وقد قام دستور الدولة على التشبت بتعاليم الاسلام ومقاصده “الاعتدال والتفتح” ، وكذا على قيم الانسانية و مبادئ حقوق الانسان الكونية و الحفاظ على الخصوصية التونسية . وتأسيس نظام رئاسي جمهوري ديمقراطي تشاركي في اطار دولة مدنية السيادة فيه للشعب يمارسها عبر الانتخابات ،وكذا الحرص على التعددية و مبدأ فصل السلطات و التوازن بينها (فصل مرن) وسمو الدستور و احترام الحقوق والحريات (مقتبس من ديباجة الدستور التونسي لسنة 2014).

وبالرجوع للتساؤل المطروح ، لابد من قراءة الفصل 80 الذي استند عليه الرئيس التونسي قيس سعيد بارتباطه بمجموعة من الفصول بدستور تونس واهمها الفصل 71 الذي ينص على ان السلطة التنفيذية يمارسها رئيس الجمهورية ومؤسسة رئاسة الحكومة ، والفصول من 72 الى 88 التي تؤطر مؤسسة رئيس الجمهورية واختصاصاته، فهو حسب هذه الفصول رمز وحدة الدولة وضامن استقلالها واستمرارها و الساهر على احترام الدستور ، ويمثل الدولة ويضبط سياساتها العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والامن القومي (باستشارة رئيس الحكومة)، كما له اختصاصات اخرى كحل البرلمان ورئاسة مجلس الامن القومي واعلان الحرب وابرام السلم (موافقة رئيس الحكومة و رئيس مجلس نواب الشعب) ،يعلن حالة الاستثناء ويصادق على المعاهدات ويأذن بنشرها ويمارس العفو الخاص ويعين مفتي الجمهورية ويعين بالمناصب العليا والمناصب العسكرية والدبلوماسية المتعلقة بالامن القومي (استشارة رئيس الحكومة) وتعيين محافظ البنك المركزي (باقتراح من رئيس الحكومة) ،هذه جملة اختصاصات رئيس الجمهورية أما مؤسسة رئاسة الحكومة فتؤطرها الفصول من 89 الى 101 حيث يكلف رئيس الجمهورية مرشح الحزب او الائتلاف الحكومي الفائز بالانتخابات بتشكيل الحكومة في ظرف شهر يجدد مرة واحدة ، ويختار هذا الاخير وزراء حكومته ويتشاور مع رئيس الجمهورية بخصوص حقيبتي الخارجية والدفاع ، وتعرض الحكومة برنامجها على مجلس نواب الشعب لنيل الثقة بالاغلبية المطلقة وبعد نيلها الثقة يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة واعضائها و يؤدون اليمين امامه .من اهم اختصاصاته رئاسته لمجلس الوزراء باستثناء حين يتعلق الأمر بمجالات الدفاع والخارجية والامن القومي فيرأس رئيس الجمهورية مجلس الوزراء ، وتعتبر الحكومة مسؤولة امام مجلس نواب الشعب ويمكن سحب الثقة منها بموافقة اغلبية مطلقة لاعضاء المجلس ، كما ان استقالة رئيس الحكومة تعتبر استقالة للحكومة بكاملها . ويعتبر اهم فصل بالدستور وهو 101 الذي يسند للمحكمة الدستورية مهمة الفصل باي نزاع في الاختصاصات بين رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة في اجل اسبوع.

اولا: طبيعة النظام السياسي التونسي

لتحديد طبيعة النظام السياسي لبلد ما ، لابد من فحص الصلاحيات المسندة دستوريا للسلطة التنفيذية؛ وبالرجوع لدستور 2014 لا نجد ذكر لنوع نظام السياسي بالبلاد ولا نجد ذكر للعلاقات بين السلط الثلاث والاكتفاء بذكر اختصاصات المؤسسة التشريعية بالباب الثالث، واختصاصات السلطة التنفيذية بالباب الرابع ،واختصاصات السلطة القضائية بالباب الخامس، وبالتالي سنستنج نوع النظام السياسي التونسي من خلال مقارنته بخصائص الانظمة المعروفة و نفهم طبيعته.

بالنظام الرئاسي تتمركز السلطة التنفيذية في يد رئيس الدولة الذي ينتخب عن طريق الاقتراع العام المباشر ويشكل حكومة لتنفيذ برنامجه وتكون هذه الحكومة مسؤولة امامه وليس امام البرلمان ولا تملك الحكومة صلاحية حل البرلمان والعكس كذلك بحكم الفصل التام للسلط . وهذا ما لا يتوافق في جله مع النظام السياسي بتونس حيث يتقاسم رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة السلطة التنفيذية و يتعاونان في تدبيرها مع رجحان الكفة لرئيس الجمهورية في كثير من الاختصاصات الحساسة والأمنية والعسكرية والدينية دون ان تتمركز بيد رئيس الدولة كما هو الحال بالنظام الرئاسي ، كما لايوجد فصل تام بين السلط ولكن يقوم على تعاونها وتوازنها ، بالاضافة الى ان الحكومة مسؤولة امام البرلمان وليس امام الرئيس . أما بالنظام البرلماني فهناك تشابك بين السلطة التنفيذية والتشريعية فهناك فصل غير واضح للسلط لان الحكومة تنبثق عن البرلمان وان الحكومة مسؤولة امام البرلمان و وجود تناغم بين السلطتين لانبثاقهما من نفس المكون او التكتل السياسي ، ويمكن للحكومة حل البرلمان و العكس كذلك . والنظام السياسي التونسي يتوافق مع النظام البرلماني في مسؤولية الحكومة امام البرلمان و حله وكذا توازن السلط والفصل المرن بينها لكن يختلف عنه بوجود ثنائية للسلطة التتفيذية و استقلال السلطة التشريعية عن التنفيذية .ومن خلال المقارنة يتضح هناك نظام مختلط بين الرئاسي و البرلماني (شبه رئاسي /مختلط) اسوة بالنظام الفرنسي حيث يتميز بثنائية السلطة التنفيذية فإلى جانب مؤسسة رئيس الجمهورية توجد مؤسسة رئاسة الحكومة التي تتمتع بصلاحيات دستورية تمكنها من رسم السياسة العامة وتسيير شؤون الدولة، وتكون مسؤولة أمام البرلمان. غير أن انتخاب رئيس الجمهورية من قبل الشعب بالاقتراع العام يمنحه سلطات واسعة تسمح له بالظهور بمظهر المهيمن أو المتفوق في السلطة التنفيذية. ويتجلى هذا التفوق بعدد من المظاهر في الدستور. فالرئيس يرأس مجلس الوزراء أو له الحق في ترؤسه، وله سلطة تعيين رئيس الحكومة وتعيين الوزراء بناءً على اقتراح رئيس الحكومة، ويعين كبار الموظفين، ويتمتع بسلطات تنظيمية واسعة، كذلك فإن رئيس الجمهورية او الدولة ( لا يتصور هذا النظام الا في الدول الجمهورية او الرئاسية) يمتلك سلطات واسعة في الظروف الاستثنائية وحالات الطوارئ ، كما أنه يمكنه اللجوء إلى الشعب لاستفتائه. وعلى الرغم من الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الدولة؛ فهو غير مسؤول سياسياً إلا أمام الهيئة الناخبة، في حين يمارس البرلمان المسؤولية السياسية على الحكومة هذا الامر الذي ينطبق على النظام التونسي المختلط او شبه الرئاسي.

ثانيا : غياب مؤسسة المحكمة الدستورية

رغم تنصيص الدستور التونسي لسنة 2014 على المحكمة الدستورية في القسم الثاني منه (من الفصل 118الى 124) إلا أنها لم ترى النور الى يومنا هذا بسبب الانقسام والاختلاف السياسي الذي اثر في اختيار مكوناتها ، حيث يتقاسم كل من رئيس الجمهورية و مجلس نواب الشعب و المجلس الاعلى للقضاء تعيين اعضائها ( كل واحد منهم يعين 4 اعضاء) لمدة 9 سنوات من ذوي الخبرة والكفاءة والتخصص القانوني ؛ الأمر الذي ترك فراغا كبيرا لأهمية دورها التحكيمي بين رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة عند تنازع الاختصاص (الفصل 101) والذي يجد اهميته الان في هذه الازمة السياسية بتونس ، الى حانب ادوارها الطبيعية في الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة الداخلية للبرلمان .وكذا دورها الاستشاري في حالة الاستثناء (الفصل 80).

ثالثا: حفظ كيان الدولة وامنها واستقلالها واستمراريتها..

خول الفصل 80 من دستور 2014 لرئيس الدولة في حالة الخطر المهدد لاستمرارية الدولة و امنها وكيانها واستقلالها اعلان عن تدابير استثنائية في بيان الى الشعب غير ان هذه المادة لم تحدد طبيعة الخطر الذي يستوجب اتخاذ هذه التدابير ، و المتابع للشأن التونسي لمس حجم الهوة بين مؤسستي رئاسة الجمهورية و رئاسة الحكومة ، وتنازع الاختصاصات بينهما ، الامر الذي ازدادت حدته مع تدهور الوضع الصحي والاقتصادي والاجتماعي بفعل جائحة كورونا ، و القرارات العشوائية والمتضاربة بين المؤسستين اللتان يفترض فيهما التناسق والانسجام ، وكذا غياب مؤسسة تحكيمية مهمة (المحكمة الدستورية) والتي يفترض اعلام رئيسها عند تفعيل هذا الفصل (80) و اعلان حالة الاستثناء .هذه الامور قرنها رئيس الدولة مع ما لمح له من فساد كبير يهدد الدولة استوجب تفعيل هذا الفصل دون استشارة رئيس الحكومة و رئيس البرلمان ، بل استدعاه الامر الى اقالة رئيس الحكومة وتجميد عمل البرلمان لمدة شهر ؟ ليبقى السؤال ما طبيعة النظام السياسي بتونس ؟ هل هناك سلط متوازنة ؟! هل غياب هيئة دستورية محكمة يستوجب تجميع السلط (تشريعية و تتفيذية و قضائية) في ظل” فساد ” طبقة سياسية مكونة للحكومة وللبرلمان ، واستحضار الفصل 72 الذي يعتبر رئيس الجمهورية ضامن استقلال الدولة ووحدتها واستمراريتها و الساهر على احترام الدستور !!

رابعا: شرعية رئيس الدولة ام شرعية رئيس الحكومة والبرلمان

يعطي النظام شبه الرئاسي لرئيس الجمهورية شرعية خاصة باعتباره منتخبا بطريقة مباشرة من الشعب وبالتالي فهو المعبر عن الارادة الحقيقة للشعب باعتباره صاحب السيادة مصدرا للسلطات يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين او بواسطة الاستفتاء (الفصل 3 من الدستور) على عكس رئيس الحكومة الذي يستمد شرعيته من ترشيح الحزب او الكتلة السياسية الفائزة بالانتخابات و لا تكتمل شرعيته الا بمنح حكومته الثقة من البرلمان و تسمية رئيس الجمهورية له كرئيس للحكومة ، الامر الذي يعطي رئيس الجمهورية شرعية خاصة تضاهي شرعية البرلمان ويمتاز على هذا الاخير بقوة الصلاحيات و رئاسة الاجهزة العسكرية والدفاع …

فالى اي مدى سيصمد النموذج الديمقراطي العربي الفريد الذي شهد العالم العربي و تونس خصوصا عقب ثورة الياسمين و اخر معاقل الربيع العربي أمام هذا التجاذب والصراع حول السلطة ؟ فهل تونس فعلا امام خطر داهم يهدد امنها و استقرارها ام ان الامر لا يعدو سوى تصفية حسابات مع اخر معاقل الربيع العربي و القطيعة مع هذا الأنموذج الديمقراطي بالوطن العربي.