كتاب “معذّبو الأرض”

يعتبر كتاب “معذّبو الأرض” للطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي والعسكري السابق المارتينيكي فرانز فانون؛ من أهم الكتب التي تناولت العلاقة المعقّدة بين المستعمِر والمستعمَر، وقامت بتحليل ظاهرة الزعيم الذي يسومُ شعبه سوء العذاب، ويجتهد في تجهيله وتخديره، من أجل تحقيق أهداف المستعمِر؛ وإن كان الزعيمُ اختيرَ -في الأصل- ليخلّص شعبه من آثار المستعمِر وسياساته.

ورغم أن الكتاب كتب أًصلًا لثورات التحرير الإفريقي والآسيوي من الاستعمار القديم إلا أنه يدخل ضمن السياق العام الذي تعيشه بعض البلدان العربية اليوم؛ وبالأخص سياق الثورة والثورة المضادة، ولذلك تمّ إصدار طبعته الثانية عن مدارات للأبحاث والنشر عام 2015 -بعد أن صدرت طبعته الأولى عن نفس الدار عام 2014- ونقله إلى العربية كل من: سامي الدروبي وجمال الأتاسي، وجاء في 282 صفحة.

مؤلفُ الكتاب هو فرانز فانون؛ الذي شارك في الحرب العالمية الثانية من خلال “جيش فرنسا الحرة”، وحارب النازيين، وعمل سرًا ثم علنًا مع حركة التحرير الوطنية الجزائرية.

بين المستعمِر والمستعمَر

في المحور الأول؛ الذي يحمل عنوان: “في العنف”؛ بدأ فانون حديثه عن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، وقال إن “العنف الذي سيطر على ترتيب العالم، والذي عمل بلا كلال على تحطيم صورة الحياة الاجتماعية لدى السكان الأصليين، وخرب بلا قيود طرز الاقتصاد، وأشكال المظهر والملبس، سيطالب به المستعمَر وسيتولاه”، ثم واصل حديثه ليؤكد أن “المستعمِر لا يكتفي بأن يحدد مجال المستعمَر باستعمال القوة، أي بواسطة شرطته ودركه، وإنما يجعل من المستعمَر روح الشرّ وخلاصته”، وهذا في الحقيقة ما يعكس واقع بعض الدول التي أصبحت بعض مؤسساتها تقوم بدور المستعمِر، فلم يعد المستعمِر بحاجة إلى أن يُنفِق جهودًا، وإنما يكفي أن يصدر الأوامر، فتقوم شرطة أو درك تلك الدولة بتنفيذ الأوامر.

أعلن فانون من البداية عن حقيقة دامغة؛ هي أن “الاستعمار قد يخرج من الباب ليعود من النافذة”، ثم بدأ يشرح العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر قائلًا: “إن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر هي علاقة جماعة بجماعة، المستعمِر يقاوم كثرة العدد بكثرة القوة. إن المستعمِر إنسانٌ مصابٌ بداء الميل إلى العرض، اهتمامه بسلامته يحمله على أن يذكر المستعمَر بأنه هو السيّد”، وفي مقابل ذلك يشير إلى أن “المستعمَر موثوق بالأغلال القوية التي أَحكَم المستعمِرُ إطباق حلقاتها عليه”، وبالتالي يعيش المستعمَر في حالة من الخوف الدائم.

في إطار حديثه عن كفاح المستعمَر؛ نَبّهَ فانون إلى أهمية إشراك جميع الفئات في الدعاية، وعدم إغفال أيّ طبقة مهما كنا نظن أنها هامشية، وقال إن “الدعاية التي تتقدم بها الأحزاب السياسية تغفل طبقة الفلاحين دائمًا؛ مع أنّ من الواضح أن طبقة الفلاحين في البلاد المستعمَرة هي الثروة الوحيدة، إن هذه الطبقة لا تخشى أن تخسر بالثورة شيئًا بل تطمح أن تكسب بالثورة كل شيء

أشار فانون إلى مفارقة عجيبة؛ وهي أن “الدركي والشرطي في المستعمرات هما المرجع والقيم الشرعي؛ الذي يستطيع المستعمَر أن يرجع إليه ويخاطبه”، ولكن في نفس الوقت “هما الجهة التي تنطق بلسان المستعمِر ونظام الاضطهاد”. أعتقد أن هذه المفارقة تُشَرِّعُ لنا طرح بعض الأسئلة؛ لعل أهمها سؤال: هل تحتاج مؤسسات الشرطة والدرك في البلدان العربية إلى إعادة الهيكلة، من أجل إيجاد مؤسسات تستطيع أن تنطق بلسان المواطن، وتقاوم الاستعمار فعلًا؟

الزعيم والبورجوازية الوطنية

في المحور الثاني؛ تحدث فانون عن ما أسماهُ “مزالق الشعور القومي”، وقال إن “المعركة ضد المستعمر لا تجري منذ البداية على مستوى قومي”، لأن المستعمر في البداية “يوجه جهوده نحو إزالة بعض المظالم” الاجتماعية والحقوقية، ولكنه لا بد وأن “يطلّ على المطامح القومية”، وهنا أشار فانون إلى أن “عدم تأهب الصفوة، وفقدان التواصل بينها وبين الجماهير” هو الذي أدّى في الأخير إلى “مزالق فاجعة”.

أكد فانون على ضرورة تجسيد الشعور القومي وربطه بمطامح الشعوب، وقال “إن الشعور القومي ما لم يكن تجسيدًا لأعمق مطامح الشعب فلن يكون إلا شكلًا لا مضمون له”، ثم استطرد في الحديث عن هذه الزاوية المهمة، ليقول “إن الضعف الكلاسيكي المعروف الذي يعانيه الوعي القومي في البلدان المختلفة لا يرجع فقط إلى أن النظام الاستعماري قد أفسدَ الإنسان المستعمَر، وإنما يرجع أيضًا إلى كسل البورجوازية الوطنية وإلى فقرها”

وصف فانون هذه البورجوازية بأنها متخلّفة، لأن “قوتها الاقتصادية تكاد تكون صفرًا”، ولذلك دعاها إلى “أن تضع تحت تصرّف الشعب رأسمال المال الثقافي والتكنيكي الذي استطاعت أن تنتزعه حين مرورها بجامعات الاستعمار”، وفي نفس الوقت أكد فانون أسفه لحال هذه البورجوازية التي ظلت “تتنكب هذا السبيل البطولي الإيجابي الخصب العادل”.

في هذا السياق؛ أشار إلى نقطة الزعيم الذي وصفه بأنه “كثيرًا ما يكون شريفًا، وكثيرًا ما يقول أقوالًا صادقة”؛ إلا أنه هو الذي يدافع عن “مصالح البورجوازية الوطنية، ومصالح الشركات الاستعمارية السابقة”، وبالتالي كل ما يفعله الزعيم هو “أن يجتر تاريخ الاستقلال، ويذكر بالوحدة التي رافقت نضال التحرير”، و”يضاعف جهوده، من أجل تخدير الشعب وتنويمه”، و”يعمل جاهدًا إما على طرده من التاريخ، وإما على منعه من دخول التاريخ”، والعجيب أن من سمع هذا الكلام يظن أن فانون يعيش بيننا اليوم، ويجزم أن كتابه هذا خَصّصه لتصوير وتشخيص واقع البلدان العربية.

الاستعمار والأمراض النفسية

في محور “الحرب الاستعمارية والاضطرابات النفسية”؛ ركز فانون على الآثار التي تخلفها حروب التحرير والاستعمار على عقول الشعوب المقاومة للاستعمار، وأشار في البداية إلى أن الاستعمار كان “يصدِّر لمستشفيات الأمراض العقلية كثيرًا من زبنائها”، ثم ذكر أن بعض البحوث العلمية التي قام بها بعض علماء الطب العقلي عام 1954 توصلت إلى “صعوبة شفاء مريض من المستعمَرين شفاءً سليمًا”، وهذا يعكس خطورة الاستعمار؛ ليس فقط على المستويات الاقتصادية والجغرافية، ولكن على المستويات العقلية أيضًا.

ذكر فانون أن الطب العقلي يصنّف هذه الاضطرابات “في باب أمراض الذُّهان الاستجابي”، وفي نفس الوقت أشار إلى أن بعض الباحثين يرى أن “الاضطرابات الاستجابية ليست بالخطيرة خطرًا فادحًا”، ثم استمر في استعراض بعض الحالات النفسية التي خلفتها الحروب ومكافحة الاستعمار، وقام بتحليل حالات أصحابها (رجالًا ونساءً)، وخصص جانبًا من هذا المحور لكفاح الشعب الجزائري؛ الذي قال إن حرب التحرير الوطني التي خاضها أصبحت “تربة صالحة لانطلاق الاضطرابات العقلية”.