كتاب:”المعرفة والقوة..نحو طريقة علمية للهيمنة”

هل المعرفةُ حيلةٌ للهيمنة على السلطة؟

قراءة في كتاب:”المعرفة والقوة..نحو طريقة علمية للهيمنة” لـ”جمال مفرج”

قد يبدو هذا العنوان غريبا لدى البعض إلى درجة كبيرة، لكن بعد الخوض في التفاصيل، ومحاولة تقديم جواب مقنع لهذا السؤال الكبير، فإننا سنكتشف أن الغرابة مكون من مكونات هذا العالم الذي نعيش فيه. يرى بعض الباحثين من أمثال “نيتشه” و”فوكـو” أن هناك مجموعة من “القوى الفاعلة التي تتخفى وراءها المعرفة وتستغلها”، ولهذا فقد ظلت العلاقة بين المعرفة والسلطة في بعض الحضارات، تعكس جانبا مهما من هذه الحقيقة التي نحن بصدد الحديث عنها بشيء من الإيجاز، من خلال أهم الأفكار المنثورة بين دفتي كتاب: (المعرفة والقوة).

تضاريس الكتاب

وزع الكاتب الجزائري جمال مفرج كتابه هذا، إلى ثلاثة أقسام رئيسية، تناول في الأول علاقة المعرفة بالسلطة من خلال الثقافة والاستشراق والاجتهاد، بينما تناول في الثاني العلاقة بين سلطة الخيال وسلطة الدولة، وكيف تسعى الترجمة إلى التسلط وتملك النّص، أما الثالث والأخير، فقد تحدث فيه عن حقيقة وما ورائيات الحوار الفلسفي بين المشرق والمغرب العربيين.

من الواضح جدا أن الكاتب يسعى من خلال هذا الكتاب “إلى أن يوضح كيف نشأت العلاقة بين المعرفة والسلطة، وكيف تحالف العمل الثقافي مع العمل السياسي..”{ص:9}. من أجل أن تصبح هذه القوى المهينة هي الحاكمة بطريقة غير مباشرة، من خلال استخدام مجموعة من الحيل، على رأسها المعرفة، فالمعرفة كما يبدو من خلال عنوان الكتاب تتقدم على القوة، وتستخدم كوسيلة عملية ناجعة للهيمنة على السلطة.

مداخل قوى الهيمنة

حاول الكاتب في القسم الأول أن يقدم صورة واضحة عن العلاقة بين السلطة والمعرفة من خلال ثلاثة نقاط رئيسية: (الثقافة، الاستشراق، الاجتهاد)، بدأ بالثقافة، وأعطى نبذة تاريخية عن هذا المصطلح، وتاريخ تطوره في الفكر البشري، وذكر أن الثقافة عند كَانْطْ :”غاية تطوير مواهب الإنسان ومداركه”، أما عند نيتشه، فـ:”تعني تدجين الأقوياء، والشجعان، والمثقفين، وإخضاع السلالات الأرستقراطية ومثلها إلى الإذلال والترويض..”{ص:16}.

ثم استمر في الحديث عن الثقافة، فاستنتج أنها مدخل رئيسي للقوى المهيمنة، وأن معناها يختلف باختلاف القوى المهينة، فيقول:”..يتبين لنا أن الثقافة ظاهرة تاريخية، يتحدد معناها وتطورها بنوع القوى التي تستولي عليها، وتعبر عن نفسها فيها، فإذا كانت في يد القوى الإيجابية والإرادات الحسنة كانت الثقافة فاعلة، أما إذا انتقلت إلى مصلحة الإرادات السيئة فإنها تصبح مهددة للإنسان..”، ثم أشار إلى أن “الثقافة المعاصرة قد سقطت تحت وطأة الإغراء الزائف للنزعتين السياسية والاقتصادية..” {ص:22}.

بعد ذلك تحدث عن الاستشراق كعنصر من العناصر التي تعكس التحالف بين العمل الثقافي والسياسي، فيقدم في البداية مفهوما من وجهة نظره للاستشراق، وهو أنه عبارة عن محاولة لفهم الآخر إلى استعباده. يقول الكاتب:”لقد كان الاستشراق، باعتباره معرفة الغربي بالآخر البدائي يخفي إذن منزعا عرقيا وفكرة كون الهوية الأوروبية متفوقة بالمقارنة مع جميع الشعوب والثقافات غير الأروربية..فالذات الأوروبية لم تكن تحترم الشعوب الأخرى وثقافاتها، ولم تكن تعترف بالفوارق بينها وبين الآخر، بل كانت تدور حول ذاتها أي كانت تمركزا أوروبيا..”{ص:37و38}.

إن الكاتب هنا يريد أن يشير إلى العدوانية التي كان يضمرها الاستشراق للشعوب الأخرى، فالحقيقة التي تتجلى لمتتبع مسار الاستشراق هي أن الاستشراق “كجهاز ثقافي” كان يسعى من خلال حملاته المختلفة إلى التغلغل في أدغال جغرافيا تلك الشعوب المسلمة ومعرفة تاريخها من أجل استعمارها من جديد، كي يحقق هيمنة الدول الغربية ويبسط نفوذها عالميا.

بعد الاشتسراق انتقل الكاتب إلى الاجتهاد، فذكر أن “الوضع الثقافي العربي الإسلامي، في عصرنا يمكن أن يوصف بكلمة واحدة هي الجمود، وأعراض هذا الجمود في كل مكان: في الفن، الأخلاق، الفلسفة، العلم..وهي أعراض تدل على أن ثقافتنا مصابة بعياء مرهق..”.{ص46}. ثم بعد ذلك يبدأ يستعرض أقسام الاجتهاد ومراتبه، واختلاف مواقف العلماء منه، ويبينُ العوامل التي أدت إلى الانقلاب في الشريعة وأفضت إلى سد باب الاجتهاد، ومن العوامل التي ذكرها :”الواقع المتأخر، أو الواقع المتخلف، والعولمة التي أصبح في ظلها تشريع القوانين الدولية والمحلية بيد غير المسلمين..” {ص:58}.

العلاقة بين الفن والسلطة

في القسم الثاني تناول الكاتب موضوعين رئيسين: الأول يتعلق بالعلاقة “بين سلطة الخيال وسلطة الدولة”، وقد حاول في هذه النقطة أن يستعرض تاريخ الفن والأدب من خلال كتاب “الشعر” لأرسطو، وفي هذا الإطار أشار الكاتب إلى أن أرسطو “لا يتطلب من الفن الأمانة المطلقة في التعبير عن الأشياء والظواهر، ولا الدقة في الإنتاج الفني، خاصة إذا كان كل ابتعاد عن الدقة يزيد من روعة ذلك الإنتاج، وبالتالي فإن ضرورة الحكم على العمل الفني تتم على أساس فعاليته الجمالية..”.{ص:73}.

أما الموضوع الثاني :”الترجمة من التواصل إلى الاستحواذ على النص الأصلي”، فقد حاول الكاتب من خلاله الإجابة على سؤال مهم وهو: هل الترجمة فعلا خيانة؟. تحدث الكاتب عن هذا الموضوع، وبعد أن نقل كلمة لـ”كليطو” يحكم من خلالها على الترجمة بأنها “لا يمكن أن تفي بالنص الأصلي” قال معلقا: “وبعبارات أخرى تسعى الترجمة إلى التسلط وتملك النص، بل وأكثر من ذلك، تسعى وهي النسخة إلى أن تتحول إلى نص أصلي، ويكون هذا السعي قويا عندما يتعلق الأمر بنصوص قوية..”.{ص:81}.

حوار المشرق والمغرب

أما القسم الثالث من الكتاب فيتضمن موضوعين منفصلين: الأول: موضوع “حوار النفي المتبادل بين المشرق والمغرب”، وهو حوار دار بين المفكر المصري حسن حنفي والمفكر المغربي محمد عابد الجابر. يرى الكاتب أن هذا الحوار الذي كان يسعى إلى تشخيص الحوار الفلسفي بين المشرق والمغرب العربيين، “لم يكن حوارا نقديا، ولم يرتق إلى مستوى التحليل المعرفي الخالص كما كان يتمنى المفكران..”.{ص:95}. بل كان يسعى إلى “محاولة تحزيب الفلسفة وتوطينها مشرقا أو مغربا”. حسب تعبير الكاتب.

أما الموضوع الثاني فيتعلق بـ”الموقف الفلسفي العربي من الفلسفة” من نظر طيب تيزيني، وفي هذه النقطة قال الكاتب إن “المفكر العربي المعاصر من موقفه من الفلسفة يفصح، من وجهة نظر طيب تيزيني، عن ثلاثة اتجاهات: واحد صوب الماضي العربي، وآخر نحو الحاضر العربي، وثالث يتصل بحاضره هو..”.{ص:99}.

في ختام هذا العرض يمكن القول إن العلاقة بين المعرفة والسلطة علاقة معقدة إلى حد كبير، سواء تم الحكم على المعرفة بأنها حيلة من حيل السلطة، كما يزعم “نيتشه” وزميله “فوكـو”، أو تمت تبرئة المعرفة من التهمة الموجهة لها تماما، ففي كلا الحالتين ستبقى العلاقة غامضة، وسيبقى التحالف بين العمل الثقافي والسياسي يقضُّ مضاجع النائمين على أسرَّةِ السلطة.