الأوروعربية للصحافة

ناس الحومة

تغيرت عرائشنا كثيرا ، و تغيرت تفاصيلها الثقافية و معها عاداتها وشوارعها و معالمها و فضاءاتها العامة ألوانها بين البياض و زرقة السماء، و أزيحت عن برامجنا اليومية التي لايمكن على أية حال، أن تخرج عن درب الحومة و غابة لايبيكا والشرفة الأطلسية و بحر المدينة، كمساحات مهمة داخل تفكيرنا و سلوكنا، أو حتى عن تجمع طائش أو آخر مرتب من قبل شخصية اعتبارية و رمزية بتعاون مع ناس الحومة، من أجل الإعلان عن خرجة رسمية خارجة عن المألوف داخل الدرب.

دافع الغيرة على الحومة و على المدينة هو ما يحرك شخصياتنا الاعتبارية لتخصيص غالب وقتها و اهتمامها في سبيل توفير فسحة و تنشأة شارع منسجم مع منظومة الأخلاق و القيم التي تنظم عادة داخل البيوت لا خارجها.

مناسبة الحديث عن تنشأة الشارع -يعود بكثير من الحسرة- لفقداننا شخصيات كثيرة لونت أسوار أحياء و طبعت مسار فرق رياضية و أندية للمسرح و القصة و التمثيل و الشعر و أنواع أدبية و فنية أخرى ، و كانت بمثابة المرجع و القدوة لكل طفل أو شاب في مقتبل العمر، و جواب على سؤاله في احتياجه اليومي المعاش و في حلمه أيضا؛

ربما هذا ” الاحتياج ” قد يختزل في مجرد ترخيص للغياب عن أعباء المنزل لمدة ساعات، و ربما توصيلة للبحر مع تذكرة العودة بأمان أو ربما توسل للعب كرة القدم أو المشاركة في مسابقة رياضية فيها قليل من العنف….؛ ربما إذن لسفر قريب يتضمن برنامجه إعداد تاكرة و شواية سردين…
ربما الكثير؛

في هذا الزمن، لم يكن لمصادر التمويل العمومي أية مكانة لدى ناس الحومة، و في المقابل كان لهذه الشخصيات الاعتبارية في الحومة أو المدينة وقع كبير سواء من حيث الدعم الذي كانوا يقدمونه حسب قدرتهم المالية، أو من حيث التمكين الأخلاقي الذي يؤهلهم لجمع المساهمات و ترتيب صرفها حسب أولوية الهدف، و الأهم من كل ذلك مصاحبتهم لأطفال و شباب الحومة.

في نفس الزمن، كانت كل شخصية داخل الحومة اختصاص في تقريب و توحيد الرؤى و تضع ضمن اهتمامها حاجيات الأطفال و ميولات الشباب، بل تكبح السيبة و تنصف الدراويش أو تحاول على الأقل بحسن نية؛

كانت لهذه ” المدرسة” القدرة على صناعة تنشأة عمادها الحشمة و الوقار و قائمة على احترام بعض الحدود التي لايمكن للجيل الصاعد تجاوزها؛

قد نجد لهذا الحديث تغدية كافية داخل الفرق الكروية “المنتخب د الحومة ” في أحيائنا القديمة: فكرة المشاركة في الدوريات، إنشاء صندوق المساهمات، شراء الأدوات و المعدات، مدرب الفريق، المقر المخصص للاجتماعات ” منزل أحدهم طبعا “، مكان وضع المستلزمات الرياضية، أوقات التداريب، العناصر الرسمية و الاحتياطية، الفئات العمرية، برنامج السنة المقبلة…؛

و قد نجد لهذا الحديث أيضا، اختزالا حقيقيا و توصيفا قريبا للمرحوم ” الحبيب- جنان كاسطييل”و ” المرحوم المعلم- حي الوفاء “… و الرياحي و آخرون كثر، تربى على يدهم أكثر من جيلين، وقع بعضهم على الإعلاء من شأن كرة القدم بمدينتنا، و ساهموا بتنافسية كبيرة في إغناء فريق “شباب/حسنية العرائش ” بعناصر شكلت الحد الأدنى لسقف الطموحات، دون اللجوء إلى شراء لاعبين من خارج اولاد الحومات، و إن كان عاديا بل و محمودا أيضا إذا ما توفرت السيولة و الرغبة في تحقيق هدف عاجل انعدمت إحدى شروطه بمواهب عرائشنا؛

الشخصيات الاعتبارية المقصودة، هي من كانت تشغل الفضاءات العامة، تغطي احتياجاتنا و تصاحب أحلامنا و طفولتنا و مراهقتنا و طيشنا العابر و تدعمنا ” خلسة” رغم ممانعة الأسرة خوفا من الضياع؛

تروم الأسرة عادة، أن ترى ابنها صاحب مستقبل مهني مشرف و تعتبر المهندس صاحب الخوذة و الطبيب ذو السماعة و المحامي أو القاضي ببدلته السوداء الأفضل شأنا و قيمة، و هو مخيال صائب في جزء كبير منه، لكنه ناقص دون ” الشخصية الاعتبارية” أو رموزنا في الحي و المدينة، والتي تروم صناعة مواطن صالح يلتزم بأداء واجباته اتجاه أسرته و جيرانه و حومته و مدينته، و يساهم انطلاقا من كفاءته ووضعه، بإحداث تغيير إيجابي داخل محيطه و مجتمعه، و بين المدرسة ” الأسرة و المدرسة “ناس الحومة” ثمرة الاهتمام المشترك بالذات و بالبشر و بالشجر و بالحجر.

مناسبة هذا الكلام، تزامن مع حادث مأساوي راح ضحيته شابين في مقتبل العمر رحمها الله و أسكنهما فسيح جناته، كان أحدهما لاعبا يافعا بفريق شباب العرائش و قريبا لعبد الإلاه الزريكي، و قد رأيت حزنا شديدا على ملامح أخينا و أدركت في أكثر من مناسبة أهمية العمل التطوعي الذي يقوم به بهواية و افتخار مع شباب حي الوفاء خاصة و شباب المدينة بشكل عام؛

عبد الإلاه الزريكي إلى جانب رموزنا و شخصياتنا الاعتبارية، يستحق كل التنويه والإشادة و التشجيع و بتقدير مجاملة لاحتضان هذا الجيل بدل ضياعه في غياهب ” البابجي” و “الفري فاير” أو ظلمات العادات السيئة و القبيحة أو كحامل للممنوعات و أسلحة أذى.

في الكلام أعلاه، تكبير بشخصياتنا و اعتراف لمجهوداتهم، و نداء للجميع لقول أشياء جميلة في حق ” ناس الحومة”؛

و في كلمة أخيرة لابد منها، شكرا ل “ناس الحومة”.

يوسف الغرافي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.