المدير برهون حسن 00212661078323
محمّد خطّابي يكتب: معركة “أنوَال” في ذِكرَاها المائوية سَرْديّات قبل لقاء الجَمعيْن
د. محمّد محمّد خطّابي كاتب من المغرب ،
يقول الباحث الصّديق الدكتور عليّ الإدريسي في تقديمه لاحتفالات الذكرىَ المائوية لمعركة أنوال المجيدة ( 21 يوليو 1921- 2021 ) : “كان خيالاً أن تكون يا “أنوال” عيداً، ولجيل القرن العشرين نصراً موعودَا، وللتاريخ أنشودة فخرٍ تعبُر الحدودَا، وللشّعوب المُستعمَرة مرجعيّة وأفقاً جديدَا، ولأهل الرّيف والشّمال إكليلَ عزّةٍ وحديثاً مَجيدَا، وللحريّة مَقصداً وعنواناً تليدَا، ولقيم العدالة انبعاثاً ومنهجاً سديدَا، وللإنسان الحرّ مَعلماً لن يضيع وعنه لن نحيدَ”.
أمْجَاد غُرَّة المَعَارِك التحرّرية
بمناسبة الاحتفال بهذه الذكرى الخالدة التي قادها الزّعيم البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله نقدّم للقراء الكرام مقتطفاتٍ وسرديات مُوجزة من روايتي “تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون” التي ستصدر قريباً ، وهي تستعرض في عرضٍ قصصيٍّ مشاهدَ وأحداثاً ووقائعَ استرجاعية مُستوحاة من سيرة جدّنا الأبرّ المُجاهد “مُوحْ نَسِّي أحمد خطّابي”رحمه الله الذي أسلم الرّوح إلى باريها شهيداً يوم الأربعاء 21 يوليو 1921 وهو التاريخ الذي دارت فيه رحىَ هذه المعركة الماجدة التي تُعتبر غرّة المعارك خلال حرب الرّيف التحرّرية الباسلة الى جانب العديد من رفقائه من المُجاهدين والشّهداء الآخرين الأبرار الذين أعطوا النفسَ والنفيس، وأبلوا البلاءَ الحسَن دفاعاً عن حوزة الوطن الغالي، وذوداً عن عزّته،وسُمعته، وكرامته، ووحدته،وأهله،وعشيرته ضدّ مُستعمرٍ غاشمٍ ملأت الأطماعُ قلبَه، وغمر الجشع عقلَه دون التفكير في العواقب الوخيمة التي ستلحق به جرّاء إقدامه بالاعتداء ظلماً وعدوانا على شعبٍ يعيش على البساطة والفطرة ولكنّه شعب صامدٌ، صلبٌ، عصيٌّ على الإنكسار، وعنيد في الدّفاع عن أرضِه، وعِرضِه، وحَوضِه، شعب يعشق الحرية حتى الموت، بمقاومته ،ومجابهته، وردّه ،وصدّه ،وإذلاله ودحره لأعتىَ قوّةٍ استعماريةٍ نظاميةٍ غاشمةٍ اسبانية لم تكن تغيب عنها الشّمس لعقودٍ طويلةٍ خلت تخرّج ضباطُها، وجنودُها، ومُحاربُوها من أرقى المعاهد العسكرية باسبانيا حيث منيت بهزيمة منكرة في خِضمّ المعارك الضارية التي خاضها المجاهدون الأبرار، والشّهداء الأخيار سواء في هذه المعركة الكبرى “أنوال”، أو في أخواتها ومثيلاتها من المعارك الأخرى الماجدات فى “ادْهار أُوبارّان”، و”إغريبَن”، و”إغزَرْ أُووشّن” أو وادي الذئب ، وسواها من مواطن النّزال ،وساحات السّجال، وفى مراتع التلاحم والقتال التي تستعصي على النسيان والتي خلّدها التاريخ بمختلف لغاته بأحرُفٍ من نور. فى الذكرى المائوية لهذه المعركة الفاصلة ،واستحضاراً واستذكاراً واسترجاعاً للوَسط الذي عاش في كنفه هؤلاء المُحاربون الأشاوس قبل لقاء الجمعيْن في ساحة الوغىَ مَوعدُه بموقع أنوال بأرض تمسمان الحَصينة،إليكم هذه القطوف والسّرديات من هذه الرّواية عن أجواء الإعداد لهذه المعركة الكبرى :
“تحت ظلال أشجارالتّين والزّيتُون”
“..أواخر القرن التاسع عشر عندما كان (مُوح نسّي أحمد خطّابي) قد تجاوز الثلاثين من عمره ،كانت قريته (أجدير) تنعم بالسّكينة والهدوء، كانت قرية مترامية الاطراف، مناظرها الطبيعية قلّ نظيرُها بين القرىَ المُجاورة لوقوعها على أخاديد خليج طبيعي ساحر ، كان البّحر يمتدّ أمامها كصفحة زرقاء متلألئة، يعانق الأفق البعيد عند مُنحنيات جبال تمسمان الشّامخة وهضابها وآكامها التي تحاذي هي الأخرى البحر من كلّ جانب.
وعلى بُعد بضعة أمتار قليلة من “الصّفيحة” وهو الشاطئ المفضّل عند (مُوح) تظهر جزيرة أو” صخرة النكور” السّليبة التي تبدو للناظر إليها من البرّ وكأنّها باخرة عملاقة تمخرُ عبابَ البحر البلّوري المتلألئ السّاكن، وغير بعيدٍ عن ” جزيرة النكور” ناحية اليسار تتمدّد صخرتان أخريتان تكاد الواحدة منهما تلامس الأخرى في رومانسية حالمة، كان أهل القرية يطلقون على الجزيرة الأكبر منهما إسم “جزيرة البحر”، وعلى الجزيرة الأصغر”جزيرة البرّ “،وهتان الجزيرتان الصّغيرتان اللتان تكسوهما أشجار الصبّار كما تكثر فيهما شُجيرات التّين الشّائك المثقلة بثمراته اللذيذة هما أقرب إلى البرّ من جزيرة النكور الكبرىَ المُجاورة المُحتلة من طرف الإسبان .
كانت قرية أجدير تعتمد على الفلاحة كمصدر أساسي للرّزق حيث كان السكان يزرعون أراضيهم الخصبة التي كانت توجد في الغالب في السّهول الواطئة البسيطة التي يطلقون عليها “رَاوْضَا” ( الوطاء) وهي سهول زراعية، ومَرَاعٍ خصبة،وأراضٍ فلاحية مترامية الاطراف تمتد من أكمة مسجد (رمجاهدن) (المجاهدون) العتيد الذي هو محلّ تقديسٍ لدى السكّان، بني على ربوة عالية بمحاذاة المعالم الأثرية القديمة لمدينة (المَزمّة) التاريخية المندثرة ،إلى أراضي ” أغزار أباري” (الوادي البالي) التي تحاذي نهر (وادى غيس) مروراً بمرتفعات (أزغار)،وبشاطئ ” الطايث” عند مصبّ نهر غيس، والوادي المالح.
كان الناس يعيشون على البساطة ،والفطرة ،والقناعة ،كانت منطقة (رَاوْضَا)) أرضاً منبسطة خضراء ذات تربة ثرية معطاء ، وكانت الخيرات بها وافرة، والفلاحة مزدهرة في مواسم الحصاد، وكانت المياه غزيرة منهمرة ،كانت تُستقدَم من وادي النكور المُجاور، ومن نهر واد غيس بواسطة سواقي صُمّمت بهندسة الريّ التقليدي الضّارب في القِدم حيث كانت المياه تنساب عبر قنوات مائية تضمن السّقي بالتناوب (النّوبث) لمجموع الأراضي الواقعة على طول هذا السّهل المترامي الأطراف .
و من بيت (مُوح) في أعالي التلّ المُجاور لجبل ” تقيشّة” الشامخ كانت تبدو أراضي “تمسمان” الخصبة المحاذية لسواحل البحر الأبيض المتوسّط التي تنتهي عند آخر اليابسة، حيث يظهر ضريح الوليّ الصّالح “سيدي شعيب انفتاح” لساكنة قرية أجدير من بعيد كذلك كبقايا وشمٍ يلوحُ في ظاهر اليد .
في هذه السّواحل الفسيحة ظهرت، وتألقت، وازدهرت، وسادت ثم بادت “إمارة بني صالح” “نكور” التاريخية الواقعة على شطآن سواحل السّواني الشاسعة ، هذه الإمارة لم يعد لها وجود كما كانت عليه في غابر الأزمان سوى في ذاكرة السكّان ،حالها مثل حال “مدينة الزّهراء” الأندلسية القريبة من حاضرة قرطبة ،حتى وإن بقيت من هذه الأخيرة أطلال، وجدران ،ومعالم، ومآثر متهالكة،لم يبق لنا منها سوى رزمة باهتة من القصص، والحكايات، والذكريات، والأحاجي، والمرويّات، والأساطير، وآثار بقايا السّواقي المائيّة المرصُوصة بالصّخور الصّلدة التي كانت على عهد الفتىَ (مُوح) ما فتئت تشقّ أديمَ الثرىَ وتفتح مسالكها وسط الأخاديد، والنتوءات، والمُنعرجات، والمُنعطفات،والمُنحدرات، والوهاد، والهضاب،والمرتفعات، والآكام فى مختلف الوِجهات والإتجاهات،هذه السّواقي لم تكن تحمل إلى السكّان المياه الزلالية البلّورية الصّافية وحسب، بل كانت بمثابة بريد مائي يجرّ ويجلب معها لهم على ميازيبها الجارية العديدَ من الرّسائل، والمراسلات، والعقود، والمواثيق محشوّة داخل جُعبٍ من قصبات متينة مُغلقة بإحكام تصل إليهم وتمرّ بأراضيهم وهي طافية والتي لها صلة بمختلف المواضيع التي كانت تهمّهم من كلّ نوع” .
شعبٌ عصيٌّ على الإنكسار
“.. أصبح (مُوح نسّي أحمد) يحظىَ بتقدير خاص عند أهل قريته، فإلى جانب شهرته كرجلٍ شجاع على مختلف الواجهات ، أصبح معروفاً كذلك بمهارته الفائقة في التسديد والتصويب ببندقيته على وجه الخصوص ،حيث كان له قصب السّبق في هذا المجال، وذاع صيته ليس في قريته وحسب، بل أصبح مشهوراً لدى القبائل المجاورة أيضاً ، فالتداريب التي كان يزاولها منذ نعومة أظفاره في قمة تقيشّة ،ودهار أمقران، وفى بوجيبار، وفى سواها من المناطق الغابوية التي كانت تكثر فيها أشجار محلية كثيفة مثل فاضيص، وأزمور،والخرّوب، وأمزّي (مع تشديد حرف الزّاي) فضلاً عن نباتات الصبّار ،وشُجيرات التّين الشّوكي التي كانت تنتشر في كلّ مكان . كلّ تلك التداريب المُستمرّة على الرّماية والتصويب أعطت أكلها . وعندما اشتدّ عودُه أصبح قنّاصاً ماهراً قلّ مثيله، بحيث كان يفوز في كلّ مرّة في المباريات التي كانت تُنظّم بمناسبة الأعراس،أو في مناسبات أخرى فلاحية، أواجتماعية، أودينية، حيث كان من تقاليد المنطقة أن تُنظّم مسابقات في الرّماية قبل صلاة العصر، وكان هذا من بين الأسباب التي ساهمت في تأجيج نار الغيرة لدى بعض أعيان الرّيف منه سواء في قريته أو في القرىَ المجاورة .
وفى يومٍ من أيام الله الخوالي ، كان (مُوح) جالساً تحت ظلّ شجرة تين عظمىَ كانت قريبة من منزله ،حضر رجل غريب على حين غرّة راكباً بغلة رمادية ،فتوقف بعيداً عن المنزل، وأرسل إشارة الى أهل الدار تفيد في رغبته في لقائهم، فانتفض (مُوح) واقفاً وأخذ بندقيته التي كانت مُسندة إلى جذع شجرة زيتون ،امتشقها على كتفه الأيمن وأرسل أخاه حمّوش ليأذن للرّجل الغريب بالقدوم ويقتاده إليه ، ترك الزّائر بغلته موثوقة إلى جذع شجرة خرّوب، وقدِم رفقة حمُّوش إليه فحيّاه الرجلُ بما يجب من الاحترام ،كان شاباً في مقتبل العُمر حسن المظهر ،أذن موح له بالجلوس وأمر باستقدام إبريق من الشّاي كما قدّموا له ما تيسّر من خبز الشّعير الغامق، وصحوناً من العسل الأبيض الحرّ، والزّبدة البلدي (الدهان) واللّوز ، فسأله مُوح عن سبب قدومه إليه فبادر الشاب الزائر بشكره على حُسن الاستقبال وقال له : أنا ابن (الحاج حمّادي نَعْمَار)، لقد أرسلني اليك والدي من منزلنا بالسّواني لأبلغك تحياته،وهو يرجو منك تشريفه بحضوركم يوم الخميس القادم عند صلاة الظهر حيث سيقيم حفل تويزة كبير في حقوله بنفس المنطقة للمشاركة في مباراة الرّماية التي ستنظّم بهذه المناسبة إلى جانب بعض الرّماة المعروفين من عدّة قرى مُجاورة، فطلب (مُوح ) منه أن يبلغ تحياته لوالده الحاج عْمَار، (وكان (مُوح) يعرف أنه من أعيان منطقة تروكوت والسّواني،) وأن يخبره بأنه قَبِل دعوته للمشاركة في هذا التباري إن شاء الله.
ركب الرّجل الزّائر بغلته وانصرف إلى حال سبيله.أخبر (مُوح) أخويْه (أحمد وحمّوش) بمرافقته يوم الخميس لحضور هذا الاحتفال والمشاركة فيه .
في صبيحة يوم الخميس غادر (مُوح) وأخوَاه البيت على صهوة جواديْن مُسوّميْن إلى قرية سيدي بوعفيف حيث سيكون نفس الرّجل الذي زارهم أوّل أمس في انتظارهم ليقودهم الى حقول والده (الحاج حمادي نعمار) ، بعد حواليّ السّاعة وصلوا الى المكان المُتّفق عليه قرب ضريح الوليّ الصّالح سيدي بوعفيف ، وجدوا الرّجل في انتظارهم ،حيث انطلقوا إلى مكان الحفل تحت أُوَار قَيْظ أشعّةِ شمسٍ حارقة، عند وصولهم إلى عين المكان كان هناك العديد من المدعوييّن قد سبقوهم لأنهم جاءوا من أماكن قريبة نسبياً من مكان الحفل ، نزلوا من على صهوة جوادهما، ونزعوا عن الجواديْن سَرجيْهما ،وربطوهما إلى جذع شجرة زيتون ضخمة وارفة الظلال، ثمّ اتّجهوا رفقة الشاب المرافق إلى حيث تجمهر الحاضرون الآخرون الذين تمّت دعوتهم من مختلف القبائل الرّيفية المعروفة والمشهود لها بحُسن الرّماية كذلك، كانوا جالسين تحت ظلال أشجار التين والزيتون الباسقة العُظمىَ تتوسّطهم طاولة كبرى قصيرة عليها صينية وأبريقان للشّاي ، وبعد مأدبة الغذاء التي أعدّها الحاج حمّادي نَعْمَارلضيوفه، وبعد قراءة الفاتحة بالأكف المرفوعة إلى السّماء، وبصوتٍ جهوري أعلن المُضيف انطلاق هذا الحفل الكبير الذي كان يُنظّم بين الفينة والأخرى في مختلف مناطق الرّيف .
كانت هذه أوّل مرّة يشارك فيها (مُوح) في مباراة للرّماية خارج قريته التي كان له قصب السّبق في مختلف المباريات المحلية التي شارك فيها هناك، كان جميع الحاضرين يلبسون أحسن الثياب، وتعلو رؤوسهم أنصع العمائم، وكانوا جميعهم يمتشقون بنادقهم التي كانت بعضها تلمع لجدّتها عند انعكاس أشعّة الشمس عليها فتكاد أن تُغشي الأبصار .
دارالحفل في جوٍّ هادئ ، حيث كان هناك أكل وفير، وفواكه موسمية طازجة ثم سرعان ما دارت كؤوس الشّاي المُنعنع الذي كانت رائحته العبقة الزكية تملأ الأجواء، ومع ذلك كانت علامات القلق، والتوجّس ،والترقّب بادية على وجوه بعض الحاضرين، فلم تمضِ أشهر قليلة على مواجهات نشبت بين أعيان بعض القبائل التي يشارك أبطالها في هذا التباري الموسميّ الكبير، فالغيرة، والحَسد،والتنافس غرائز متأصّلة في قرارة بعض الأنفس البشرية الأمّارة بالسّوء ، ومع ذلك لم يحدث أيُّ حادثٍ من شأنه أن يعكّر جوّ الاحتفال الذي كان على وشك أن يبدأ بين ممثلي مختلف القبائل المشاركة في هذا التباري الذي كان دائماً مصدرَ فخرٍ واعتزاز لدى القرية الفائزة ، إلاّ أنّ هذا الفوز والفرح عند البعض قد يتحوّل الى عُنصر إنزعاج، وإلى شعور بالغيرة والانكسار عند الآخرين، كان كلّ المشاركين على علمٍ بكلّ هذه الآثارالجانبيّة التي قد يحدثها هذا النوع من التباري الذي كان يتمّ دائماً بالسّلاح النّاري الشّخصي لكلّ مشارك، ويدور بالرّصاص الحيّ .
قوقعة الحلزون أم الخيط المُعلّقة فيه؟
قام صاحب الحفل (الحاج حمّادي نَعْمَار) وصار ينادي على المتسابقين الواحد تلو الآخر، وقد بدأ بذكر إسم (موح نسّي أحمد الأجديري) ثم تبعه سائر الأسماء السّبعة المُشاركة في هذا التنافس ،وقفوا جميعاً صفّاً أفقياً واحداً متساوياً ، وكان كلّ واحد يبعد عن الآخر بحوالي مسافة متر واحد ،كان كلٌّ منهم يحمل بندقيته على كتفه ، قال الحاج حمّادي مخاطباً جميع المشاركين : أترون شجرة التّين التي أمامكم هناك على بُعد حواليْ عشرين متراً العارية من الأوراق، لقد علّقنا في خيط رفيع (فيرُو تزذاذ) المربوط على أحد أغصان الشجرة كما ترون (قوقعة حلزون برّي فارغ ) (أغرار) ، كانت القوقعة تهتزّ اهتزازاً خفيفاً بفعل هبُوب الرّياح القادمة من ناحية البحر،وكان على المتسابقين التسديد. بينما كان الجميع يترقّب ، طلب الحاج حمّادي من جميع المُشاركين الموافقة (التّسليم) على أن يبدأ الرّماية ممثّل قرية أجدير نظراً لشهرته في هذا المضمار ، فعمد الجميع إلى رفع أيديهم إلى أعلىَ مُعلنين بذلك الموافقة على اقتراح مُنظِّم الحفل ، شكرهم (مُوح ) على هذه الثقة والتكريم ،ثم خاطب الجميع بصوتٍ عالٍ حتى يسمع الجميع ما سوف يقوله لهم، فقال : حتّى تكون الأمور واضحة نريد أن نتّفق أوّلاً: هل نحن نُسدّد ونُصوِّب على قوقعة الحلزون غلالة (أغرار) أم على الخيط المعلّقة فيه ..؟ فدهش الجميع ممّا قاله (مُوح ) بكلّ ثقة وثبات،وتعجّب الجميع من ملاحظته الدقيقة، ثم وقف الحاج حمّادي وقال: بليَ، التصويب ( النيشان) والتسديد هو على القوقعة الفارغة، وليس على الخيط المعلقة فيه،طلب (مُوح) بدوره بعد ذلك مرّةً أخرى (التّسليم) من جميع الحاضرين ثم في لمح البرق، ما أن لمست مؤخّرة بندقيته بالكاد كتفه الأيمن من الأمام حتى سُمع دويّ انفجارقويّ ردّت صداه الآفاق البعيدة ناحية الجبال ، دنا الحاج حمادي وأربعة من الشيوخ الحُكّام من الشّجرة لمعاينة التسديدة فلم يعثرُوا على أيِّ أثرٍ للقوقعة (أغرار) وظلّ طرف قصيرمن الخيط (فيرُو) مُعلقاً في جِذع الشّجرة، رفع الجميع أيديهم وبنادقهم إلى أعلى وقال الحاج حمّادي : فعلاً لقد أصاب (مُوح) الهدف في الصّميم فطفق يصفّق بقوّة له ،ثمّ تبعه جميع الحاضرين بالتصفيق الحادّ ( تشارّيفت) .
حقّق (مُوح) في هذه المباراة فوزاً جديداً كبيراً ،وذاع صيته بين القرىَ المشاركة فيها حيث اعتُبر من أمهر الرّماة في المنطقة ، بعد ذلك علّق المنظّمون غلالة (قوقعة حلزون) أخرى جديدة في غصن الشّجرة بنفس الطريقة السّابقة،صارالمشاركون يصوّبون الواحد تلو الآخر، هناك مَنْ أصاب الهدف، وهناك من أخطأ وأخفق، ولم يصل أيُّ واحدٍ من المشاركين إلى مستوى دقّة ومهارة (مُوح) بشهادة جميع المشاركين والحكّام فقرّرُوا بالإجماع الإعلان عن فوزه في هذه الدورة من التباري.
عاد الجميع إلى الجُلوس ،وصارُوا يحتسُون كؤوس الشّاي من جديد، وهم يتبادلون أطراف الحديث عن مختلف المواضيع ذات الإهتمام المُشترك بينهم التي لها صلة بالأرض،والسّماد يتم نثره في التربة لجعلها أكثر ثراءً وإنتاجية والفلاحة،والحصَاد،والماشية،والغلّة، والأسواق، والمشاكسات،والمواجهات التي كانت تنشب بين القبائل بين الفينة والأخرى، وندرة المياه والجفاف،ومناوشات الاسبان الاستطلاعية والعسكرية التي كانت قد بدأت تنشط في بعض مناطق الرّيف البعيدة .
عندما انتهىَ إليهم صوت آذان العصرالذي يصدح في الآفاق والذي كان يٌسمع بالكاد من صومعة مسجدٍ بعيد عن مكان تواجدهم، وقفوا جميعُهم للصّلاة وأمَّهُم (الحاج حمّادي نعمار) وأدّوا صلاة العصر جماعةً في الهواء الطّلق في أجواء تلك الطبيعة الخلاّبة والهواء المنعش ( رَاعْوين) الذي كان يهبّ ويصلهم مُعطّراً بنسمات البحر من ناحية شاطئ السّواني الذي كان يبدو لهم وكأنّه لا نهاية له، ولم تنقطع أصوات زقزقة العصافير الرّخيمة التي كانت تأتي من كلّ جانب، عندئذٍ أجزى َ الحاضرُون الشّكر لمُنظِّم هذا الحفل البهيج للتباري والتنافس البريئْين في التصويب.
بهذه التداريب المتوالية، والمسابقات المنظّمة في التسديد ،وكأنّ القدَر كان يُعدّ هؤلاء الرّجال الصّناديد من شيوخ الرمىَ على اختلاف طبقاتهم، وشرائحهم ،وانتماءاتهم القبليّة لأيّامٍ مشهودةٍ من أيّام الله سيوجِّه لهم فيها الوطنُ الغالي نداءَ الكرامة للدّفاع عنه،والذود عن عزّته، وحوزته، وسُمعته، وشرفه ضدّ مُستعمرٍ غاشم ستملأ الأطماعُ قلبَه دون التفكير في العواقب الوخيمة التي ستلحق به جرّاء إقدامه بالاعتداء الغاشم على شعبٍ متواضع يعيش على البساطة والفطرة ولكنّه شعب صامدٌ، صلبٌ، عصيٌّ على الإنكسار، وعنيد صنديد في الدّفاع عن أرضِه، وعِرضِه، وحَوضِه، شعب يعشق الحرية حتى الموت، وعمّا قريب سيصبح الرّجل الواحد من هؤلاء المُحاربين الأشاوس يساوي مائة من الأعداء الظالمين في ساحة الوغى، ويوم النّزال.
بعد قراءة الفاتحة، وتزجية الشّكر،والدّعاء الصّالح للحاجّ حمّادي نَعْمَار مُنظِّم هذا الحفل البهيج، انتفضّ جميع المشاركين،وعاد كلُّ واحدٍ منهم من حيث أتىَ، بينما كان قرص الشّمس يميل آيلاً للغرُوب رويداً رويداً في الأفق البعيد وهو ما فتئ ينشرُ ألوانَه الأرجوانيّة الشفقيّة الزاهيّة على ربوع ذلك السّهل الخِصب الفسيح المترامي الأطراف “.