تسجيل الدخول
تسجيل الدخول
استعادة كلمة المرور الخاصة بك.
كلمة المرور سترسل إليك بالبريد الإلكتروني.
“خلاص” بقلم محمد الورداشي.
دلفَ البيتَ مسرعَ الخطوِ بوجهٍ عبوسٍ، فنظر إلى غرفته نظرةً خاطفةً قبل أن يشرعَ في البحثِ عن حقيبته، فوجدها على ظهر السقيفة حقيبةً متآكلةَ الأطرافِ، ولما شّم منها رائحةَ رطوبةٍ كادت تخنقُ أنفَهُ المفلطحَ، أخذ ينفضها كما تنفضُ الكائناتُ المتسولةُ ملابسَهَا بعد أن قضت يومَها مُقرّدةً على الرصيفِ.
شرع في ضبّ ما تشمله قبضتُهُ في حقيبته، ويرمي أشياءه الرثةَ كما اتفق إلى أن طُرق البابُ. رمى ما في يده ثم تقدم يفتحهُ على وجه امرأة أربعينية: طويلة القامة، ضخمة البنية، متجهمة الوجه، فخاطبها متسائلا:
– ما الأمر؟
فردت عليه والرذاذ يتناثر من فمها الخرب:
-أريد سطل ماء حتى…
قاطعها:
– ألم تعرفي غيرَ هذا البيت؟
طأطأت رأسها الكبيرة بعدما امتقع وجهها، فأخذتْ أطرافَ لحافِها تمسح على جبينها العرقَ المتفصدَ، عرقَ الذل والمهانة الذي ملأ عينيها وانساب صوب فمها. وبينما هي على هذه الحال، تراجع إلى الوراء وطفق يتفحصها من شُعيرات رأسها المخضَّب شيبا إلى أخمص قدميها، فلان قلبُه لحالها، وأغمض بصرَه قبل أن يقول:
– نسيت هذا اليوم..
المزيد من المقالات
– هذا ما بدا لي
– انتظري لحظة أملأه
فعاد إلى مرحاضه وفتح الصنبور عن آخره، ثم دخل الغرفة يتمم ما بدأه، وما إن كاد ينهي لملمة أشلائه حتى تفاجأ بالماء يعلو قدمه، انطلق مذعورا إلى المرحاض فألفى قفل الصنبور مكسورا، والماء يسيل كتيار جارف في سهل. لم يكن أمامه الوقت ليفكر كثيرا، لذلك نزل الدرج مهرولا وأخذ يبحث عن عداد الماء حتى يقطعه.. فقطعه ثم عاد ليجد الماء قد بدأ يجمع قوته ليخرج من البيت، لكن حقيبته المبحرة من غرفة نومه صوب بهوه، ثم تدحرجها خارج عتبة الباب ملأ نفسه رعبا وحيرة.
دار حوله كالمجنون: فتش عن العجوز فلم يجدها، وعن حذائه الملمّع فرآه يودعه مع باقي الأغراض التي استباحها الماء الجاري.
شمر عن ركبتيه وأخذ يكنس الماء خارج البيت دون أن يتوقف الصنبور، إذ ما إن يجفف غرفته حتى يمتلئ البهو، وبعدما يجفف هذا الأخير يفاجأ بالغرفة تنضح ماءً.
أعياه تصرفه وعبثية ما يقوم به، فأغمض عينيه مطلقا عقال جسده، ثم أخذت ساقاه في الارتخاء، في الانتشاء، في الانجراف.. حتى هوى على مؤخرة رأسه، ووجده محمولا على الماء كنعلٍ قديم يحمله النهر صوب مصبٍّ. لم يدرِ كم استمر إبحاره، ولا المدة التي استغرقها خروجه من بيته صوب الزقاق، وإنما تذكر أن عجوزا تقف شامخة أمامه، وتدفع الماء براحتيها الكبيرتين صوب مجرى مياه الصرف الصحي، والابتسامة تشع من نابيها المشعين، فأخذت تلوح له مودعة:
– إلى اللقا يا صاحبي.. إلى اللقا
وما إن تسللت قدماه نحو أسفل حتى شخص بصره في وجهها، فارتأى لها فأرا ملطخا بالفضلات، ثم صرصورا أسود اللون، ثم..ثم.. قالت:
هناك ستعيش عيشة كريمة: لا ندرة ماءٍ ولا مواد غذائية، ولا غلاء أسعار، ولا فاتورة ماء وكهرباء.
المقال السابق