ما بين دفتي كتاب “قوة الإبقاء على فمك مغلقا في عالم صاخب بلا حدود” لصاحبه دانييل ليونز، يتأكد لنا مجددا بأن الأشخاص الأكثر نجاحا وإلهاما هم الذين لا يسعون وراء الاهتمام، ولا يتحدثون إلا لماما، وعندما يفعلون، يكونون أكثر حرصا على ما يقولونه.
يستهل الكاتب بوصف تلك الآفة من المفرطين في الكلام، وهم أيضا معظمنا، أولئك الذين يأتون إلى مكاتبهم كل يوم اثنين، ولا ينفكون من سرد كل ما فعلوه خلال نهاية الإسبوع، “إنهم أولئك الأغبياء الذين يغتابون أي شخص آخر في حفل عشاء. إنه ذلك الجار الذي ينزلق إلى بيتك دونما دعوة، ويقضي ساعة يخبرك بقصص سمعتها مسبقا. إنه ذلك المتعجرف الذي يعرف كل شيء والذي يقاطع زملائه في الاجتماعات” وأمثلة أخرى عديدة يستحيل حتى على دانييل ليونز إحصاؤها.
في المقال الذي نزل على غلاف مجلة “التايم الأمريكية” لم يفوت الكاتب الحديث عن إيلون ماسك، هذا الرئيس التنفيذي لشركة تسلا الذي جرته تغريدته المتهورة إلى المحاكمة بتهمة الاحتيال في الأوراق المالية. وحتى الأمير البريطاني الذي يستخدم الصحافة باستمرار لنشر رسالته التي تنتقد الصحافة.
لنجد قليلا من التبرير لهذه الآفة، وفقا للكاتب: “إنه ليس خطأنا بالكامل، لأننا نعيش في عالم لا يشجع الإفراط في الحديث فحسب، بل يطالب به عمليا، حيث يُقاس النجاح بمدى الاهتمام الذي يمكننا جذبه”، ومن أمثلة ذلك، أن تحصل على مليون متابع على تويتر، وتصبح مؤثرا على الانستغرام، وتصنع فيديو سريع الانتشار، وتقوم بإلقاء محاضرة TED. نحن غارقون في اليوتيوب والوسائط الاجتماعية وتطبيقات الدردشة وخدمات البث الحي. هل تعلم أن هناك أكثر من مليوني بودكاست أنتجت 48 مليون حلقة؟ أو أن أكثر من 3000 حدث TEDx يقام كل عام؟ أو أن الأمريكيين يحضرون أكثر من مليار اجتماع سنويا، لكنهم يعتقدون أن نصفها مضيعة للوقت تمامًا؟ نحن نغرد من أجل التغريد، ونتكلم من أجل الكلام.
هناك أكثر من مليوني بودكاست أنتجت 48 مليون حلقة
لكن في الطرف المقابل، هناك العديد من الأشخاص الأكثر قوة ونجاحا يفعلون العكس تماما. لقد كان جو بايدن لمدة أربعة عقود ملك الهفوات والزلات، ولكن في عام 2020 قررت إدارة حملته الانتخابية أن يقلل الكلام وأن تكون إجاباته قصيرة، أن يصمت قبل بدء الحديث وأن تكون أجوبته مملة؛ الآن هو الرئيس. وكان ألبرت أينشتاين انطوائيًا يحب العزلة. أما الراحلة روث بادر جينسبيرفكانت تختار كلماتها بعناية شديدة ويقطع حديثها صمت مؤلم، لدرجة أن مساعديها طوروا عادة أطلقوا عليها “قاعدة المسيسيبي الثانية”: أنهي ما تقوله ثم احسب “واحد ميسيسيبي … اثنين مسيسيبي” قبل أن تتحدث مرة أخرى.
وينفي الكاتب اعتقاد شاع لدرجة أنه أصبح حقيقة مسلمة، إذ يقول: “الرجال، على وجه الخصوص، هم أبطال المبالغة في الكلام .. أنا متهور ومفرط في الكلام، وقد كلفني ذلك غاليا. القضية ليست فقط أنني أتحدث كثيرا، بل أنني لم أتمكن أبدا من مقاومة طمس الأشياء غير اللائقة، ولا يمكنني الاحتفاظ بآرائي لنفسي.
ذات مرة وضع قدمه في فمه في العمل، ويعني أنه قال شيئا لا يصح ويحرج شخصا آخر، هكذا كانت تجربة الكاتب كما يحكي: “لقد فقدت وظيفتي ووعدا بملايين الدولارات. والأسوأ من ذلك، أدى عجزي عن التحكم في الاندفاع للكلام إلى الانفصال عن زوجتي.”
في ذلك الوقت، عندما كان دانييل ليونز يعيش وحده في منزل مستأجر، بعيدا عن زوجته وأطفاله، أجرى ما يسميه أعضاء منظمة مدمنو الكحول المجهولون “جردا أخلاقيا لا يعرف الخوف” عن نفسه، وتوصل إلى أنه من نواحٍ كبيرة وصغيرة، كان الإفراط في الحديث يتدخل مع حياتيه. قاده هذا إلى البحث للعثور على إجابات لسؤالين: لماذا يتكلم بعض الناس قهريا؟ وكيف يمكننا إصلاحه؟
في عام 2010، اكتشف باحثون في مجال التواصل أن الثرثرة مرتبطة باختلالات موجات الدماغ.
في عام 2010، اكتشف باحثون في مجال التواصل (بيتي وزملاؤه) أن الثرثرة مرتبطة باختلالات موجات الدماغ. على وجه التحديد، يتعلق الأمر بالتوازن بين نشاط الخلايا العصبية في الفص الأيمن والأيسر في المنطقة الأمامية من قشرة الفص الجبهي. من الناحية المثالية، يجب أن يكون للفص الأيمن والأيسر نفس القدر من النشاط العصبي عندما يكون الشخص في حالة راحة.
بالنسبة لمعظمنا،الكلام مثل التنفس. يضيف دانييل: “أنت لا تفكر في ذلك، بل تتكلم فحسب، ولكن عندما تبدأ في الاهتمام بالطريقة التي تتحدث بها، فإن هذا يقودك إلى التفكير في سبب تحدثك بالطريقة التي تتكلم بها.”
إن ذلك يجبر المرء على إدراك شيء يحدث عادة دون وعي، إنه نوع من التأمل أو العلاج النفسي، “أنت أنت تحول انتباهك إلى الداخل، أنت منخرط في التفكير الذاتي والفحص الذاتي، أنت تكتشف من أنت.” يضيف الكاتب.
ـ بتصرف عن مجلة “تايم”
تعريب: عبد الحكيم الرويضي