المدير برهون حسن 00212661078323
الحمد لله الذي مَنَّ علينا بالإيمان وهدانا للإسلام، نسأله تعالى أن يثبتنا على ذالك إلى يوم الختام، وأن يرزقنا الصبر والسلوان على فقد الأحباب والعلماء والخلان، لا معقب لحكمه ولا ينازع في أمره،
” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ“ وكفى بالموت واعظا.
فإننا في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي على بغتة، من زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرا يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع، لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فمن أعطي خيرا فالله أعطاه، ومن وُقي شرا فالله وقاه، المتقون سادة، والعلماء قادة، ومجالستهم زيادة. جعلنا الله وإياكم عاملين بكتابه، متبعين لأوليائه، حتى يحُلنا وإياكم دار المقامة من فضله، إنه حميد مجيد
أما بعد:
ففي يوم الأحد سادس محرم سنة ثلاث و أربعين وأربع مائة وألف للهجرة النبوية المباركة، موافق خامس عشر غشت سنة إحدى وعشرين وألفين إفرنجية، تلقيت ببالغ الأسى بعد أذان الظهر نبأ إقبال شيخنا الجليل مولاي أحمد أبا عبيدة على ربه، وهو يلهج في أنفاسه الأخيرة بالتوحيد ويوصي بالتوحيد كعادته في حياته العلمية، وقد شُدهت وذُعرت ببلوغ النبأ كما وقع لأصحاب رسول الله $ وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند إخبارهم بموته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى $، لكني سرعان ما أُبْتُ إلى نفسي وتمالكت أنفاسي كما علمنا شيخنا رحمه الله الثبات عند الشدائد والمصائب، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، حزن القلب ودمعت العين، ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا، فقد أحب الله لقاءه فأحب هو لقاء ربه، فقد كان دائم الترداد لهذا الحديث النبوي الشريف ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) مذكرا به طلبته ومن حضر مجلسه، معتبرا له من تمام الرضى عن رب العالمين، ثم أكد لي زميلي وأخي الدكتور منصف الكريسي وهو أحد طلابه أيضا أن هذا الحديث كان من آخر ما ختم به حياته رحمه الله، ثم إني سمعت تسجيلا لأحد الطلاب سُجل لشيخنا وفيه الحديث الذي كان يردده كثيرا وقد شرحه لنا مرارا وكان يحملنا على حفظه عند ما كنا أحداثا في مقتبل الطلب، ويقول: هذا الحديث إذا وفق العبد المؤمن لقوله والعمل به عند مرضه أو عند يأسه من الحياة، فإنما هو رزق ساقه الله إليه ليموت على التوحيد السليم وينجيه الله عز وجل من نار الجحيم، والحديث أخرجه الإمام الترميذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما وأوله: قال رسول الله $: إذا قال العبد: لا إله إلا الله و الله أكبر قال: « يقول الله عز وجل: صدق عبدي، لا إله إلا أنا وأنا أكبر… » الحديث، وفي آخره « من رُزقهن عند موته لم تَمَسه النار » وفي لفظ « ومن قال في مرضه ثم مات لم يدخل النار ». وقد سمعت شيخنا في مرضه الأخير الذي توفي فيه يسرد الحديث بحروفه مستحضرا له من لفظ ابن ماجه على سائله ومستفسره عن الحديث، فكان يلقنه إياه ليحفظه ويعيه…وهو في حاله تلك حرصا منه في إيصال عقيدة التوحيد وكلمة الإخلاص إلى كل متعلم ومسترشد، فهنيئا لشيخنا العلامة الفذ المتفرد، على مسيرته العلمية الحافلة بالدعوة إلى التوحيد والثبات على ذالك بيقين وحسن ظن بالله وتحقيق التصديق بقوله تعالى: ( إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) إلى آخر لحظة من حياته الدنيوية، ولا ريب أن هذه الدلالات والمؤشرات من علامات حسن الخاتمة، فما زال لسانه رطبا من ذكر الله حتى فارقت روحه الطيبة جسده الشريف نحسبه كذالك ولا نزكي على الله أحدا، فرحمة الله عليه رحمة واسعة وغفر له وشمِله بعفوه ووعده لأوليائه، ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ورفع مقامه ودرجته في عليين، وألحقه بالذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولك رفيقا.
فقد ضاعت الأمة في عَلَم عزيز النظير، وفي علم غزير كثير، فموت العالم ثلمة في الإسلام ورزية للأنام.
ألا فليمت أصحاب البدع والخرافات والضلالات كمَدا، ألا فليمت أهل التكفير والتصنيفات والتحزبات حَنَقا، ولتَقََر أعين طبلة العلم الصادقين المخلصين المنصفين أهل الوفاء والخلق العظيم والأدب الكريم، والإقرار بالجميل، والمعدن الأصيل ، بحسن خاتمة شيخنا أبا عبيدة – شريف النسب المتصل بسيد الأولين- على توحيد رب العالمين.
إنني أزبر هذه الخطاطة وليست لي شهية – الآن- في الكلام ولا في التحدث عن مناقب شيخنا أبا عبيدة رحمة الله عليه، أو كتابة شيء من سيرته وخصائصه ومميزاته ومنفرداته، لولا ما رأيت في مقال صفحات من ذكرياتي مع العلامة مولاي أحمد أبا عبيدة رحمه الله تعالى لأخينا البار الوديع الدكتور وديع الذي نشره في جريدة هوي بريس 6 محرم 1443 موافق 15 غشت 2021، وهو من طلبة العلم المجدين اللاحقين بنا – أعني جميع الطلبة السابقين – في التتلمذ على يدي شيخنا والنهل من علومه والإفادة من أدبه وأخلاقه…، فكل ما ألمح إليه أخونا وديع على عجالة في هذه الصفحات واقع وحق بدءا من اللقب وإرهاصات الولادة والنبوغ المبكر وبوادر النجابة والجلد والصبر على التحصيل والفهم، والتبجيل لشيوخه والتنويه بهم في المجالس، واستحضار دررهم وفوائدهم العلمية ومحفوظاتهم الشعرية والنثرية المليحة. أما ما ألمح إليه بارك الله فيه من الدروس العلمية لشيخنا وزهده وتواضعه ومُلحه ومواقفه فكله حق وحق كله، نحسب شيخنا كذالك ولا نزكي على الله أحدا، فشيخنا مدرسة متكاملة، وما ألمع إليه الدكتور وديع في حقه ليس فيه غلو ولا إطراء كما أننا لا ننسبه للتقصير لأنه في مقام التنويه بشيخنا بومضات وإلماحات، لأن المقام ليس مقام إسهاب وتفصيلات، وسيأتي حينها إن شاء الله تعالى، إما من قِبلنا أو من قِبله أو من غيرنا، فجِعاب طلبته ملأى بالمعلومات والفوائد والدرر والنكت الأدبية والعلمية.
لكن الذي أريد الإلماح إليه في هذه العجالة هو أن شيخنا رحمه الله حباه الله بخصال قد لا أكون مبالغا إن قلت ما رأيتها في غيره.
من ذلك: العلم المحقق، والفقه المحرر، والحفظ المدقق، والاستحضار السريع، والذكاء الحاد، والفطنة الكثيفة السريعة، والإجابة عل البديهة، والورع الصادق، والزهد الخالص، والتواضع الشديد، والهيبة غير المصطنعة، والقَبول التلقائي من الجميع، ممن ليس لديهم خلفيات بدعية أو حزبية…
ومن ذلك: أنه كان رحمه الله دَمِثَ الأخلاق، حلو المَعشر، سمح المعاملة، والبيع والشراء، كثير التصدق، شديد الحب للطلبة، حريصا على الإفادة، متنزها في المجالس عن الغيبة، حريصا على نشر السنة، حريصا على العمل بالسنة، حريصا على تطبيق السنة، وقَّافا عند حدود الله، قوَّالا بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، غير حريص على المناصب والألقاب والامتيازات، ماقتا للشهرة وحب الظهور، مرددا قولته المشهورة،” حب الظهور يقصم الظهور”. زاهدا في الترقيات والعلاوات، فارًّا من أبواب المسؤولين، وكلما اشتدت رغبة بعضهم فيه كلما اشتد زهده فيهم…
ومن ذلك أنه درَّبنا وربانا رحمه الله على العمل بالعلم، وتطبيقه على النفس والغير، وربانا على الإخلاص لله في كل ما تعلمنا وعملنا، مذكرا لنا بدرره اللامعة: أخْلِص يُخلَص لك.
تُريد الخلاص وما أخلصت في عمل تُريد النجاة وما ناجيت في الظلم
وربانا رحمه الله على الكرم والسخاء والبذل وعدم المماكسة والمساومة في البيع والشراء.
وربانا على إغاثة الملهوف وإعانة المحتاج ومساعدة طلبة العلم سرا لا جهرا وإخفاءً لا إبداء.
وربانا رحمه الله على احترام العلماء والفقهاء وطلبة العلم والتواضع لهم وعدم التطاول عليهم.
كما ربانا رحمه الله على تقريب الضعفاء والمساكين ومجانبة أهل الفخر والمستكبرين، ومخالطة طبقات الناس مع تعليمهم وتفقيههم والصبر على أذاهم وعدم الانعزال عن مجتمعهم إلا بمقدار…
أليس هذا هو منهاج السنة النبوية، في تحقيق أنفاس خير البرية، في الحياة العملية ؟ فرحمة الله عليك رحمة واسعة.
وقد كنت مع كثير من زملائي من طلبة شيخنا نقتدي به ونترسم سلوكه وسمته، حتى إنني لشدة تعلقي به وحبي له رحمه الله – إذ له الفضل الكبير علي بعد الله عز وجل – كنت أقلده في كلامه وأسلوبه وحركاته – مع الفارق – حتى كان بعض زملائي يلقبونني ” فطوكوبي مولاي أحمد ” !
ومع أن شيخنا رحمه الله يتمتع بمقدرة علمية متينة، وتمكن من نواصي العلوم النقلية والعقلية بقوة، وذهن وقاد، وحافظة قوية، واستحضار مدهش بلا مثنوية، لما تحمَّله في حال طلبه للعلم أو في حال أدائه وعطائه، سواء التليد منه أو الطريف، بلا تكلف أو عصْر لبنات الأفكار، فإنه إن تكلم في العقيدة والتوحيد قلت: لا يحسن إلا هذا العلم، وإن تكلم في التفسير وعلومه وفتوحات الله عليه فيه، قلت: لا يعرف إلا هو، وإن تكلم في الفقه المقارن والخلاف العالي، قلت: لا يعدو شيخنا أن يكون فقيها مضطلعا متمكنا فحسب في المدارس الفقهية، وإن تكلم في الفقه المالكي أصوله وفروعه، واستحضار نصوصه وحفظ نثره ومنظوماته، قلت: لله دره من فقيه مالكي صرف لا يخرج عن مذهب إمامه، وإن تكلم في الحديث وعلومه، قلت: لم يخرج من دائرة أهل الحديث ومنهج أهل الصنعة في الحفظ والإتقان واستحضار الألفاظ والمتون من مصادر السنة المختلفة ومعرفة مظان التخريج وحفظ أبواب الكتب كل ذلك بكل إتقان وافتنان حتى إنك تقول بالحرف الواحد أليست عباءة شيخنا أبا عبيدة هذه هي عباءة شيخنا العلامة المحدث الألباني، فقد كان رحمه الله شديد التعلق بكتبه ومؤلفاته حافظا لها ومستحضرا لما فيها…
وإن تكلم في القراءات ورواياتها وتوجيهها و قواعد التجويد وفنونه وإعراب الآيات القرآنية من خلال المدارس النحوية واختلافاتها قلت: إن شيخنا لا يدري إلا هذا الفن حفظا وإتقانا ودراية ونقدا وتدقيقا وتحقيقا واجتهادا واستنباطا، فلله دره من قارئ متقن قد أوتي مزمارا من مزامير آل داود ومقرئ حصيف وناقد بارع، وإن تكلم رحمه الله في السلوك والتربية والأخلاق وتزكية النفس، والتخلية والتحلية لا تملك إلا أن تقول: كأن شيخنا لا يحسن أن يتكلم في هذا الفن ببراعة إلا بلسان ابن القيم الجوزية، أو بمنطق شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وهما الجبلان الشامخان والمربيان الكبيران والخبيران في تزكية النفوس وتقويم السلوك وتهذيب الأخلاق والتدرج بالأرواح والأفئدة إلى مدارج السالكين للفوز بمنازل أهل إياك نعبد وإياك نستعين، فإن شيخنا رحمه الله كان يستحضر كلامهما بالحرف أو بالمعنى من غير حَرْف، من كتبهما القيمة النفيسة البليغة في الأسلوب والطرح وتشخيص الداء وبذل الدواء، على كثرتها وتنوعها…
أقول مع أن شيخنا رحمه الله يرشح ويتمتع بكل ما أسلفت إلا أن طلبة العلم يحبون أن يستمتعوا بشيخنا في علوم اللغة العربية والنحو التصريف، فقد كان في هذا الفن آية عجبا، فهو فيه متمكن أمكن، عز نظيره في عصرنا هذا بل وفي الذي قبله، فقد بلغ فيه رحمه الله من الضلاعة والرِّيِّ إلى مُشاشه، فقد دان له وخضع له في تبحره فيه وتمكنه من دقائقه وأسراره والخبرة بمدارسه ومذاهبه القاصي والداني، والمغربي والمشرقي، فقد رزقه الله في هذا الفن حفظا نادرا لأصوله ومصادره، و فلسفة وذوقا رفيعا لمباحثه وقواعده، واجتهادا واستنباطا واستحضارا لأدق التوجيهات فيه، اللغوية والنحوية والصرفية، ناهيك عن استحضار الشواهد العربية على البديهة والعفوية، فكأن مصادر اللغة والنحو على اختلافها وكثرتها وتنوعها على امتداد أزمنتها ماثلة بين عينيه منقوشة في حافظته، كأنه في جنان وبساتين الكوفيين والبصريين والأندلسيين قطوفها دانية يقبس منها ويقطف منها ما يشاء بارتياح وسلاسة دون تكلف أو تتعتع….
ولم يبالغ من نعته من طلبته الذين سبقونا إليه من الطبقة الأولى والثانية واستفادوا منه وانتفعوا به قبلنا، لم يبالغ عندما قال لنا – ونحن ما زلنا غلمانا شببة آنذاك –: إن شيخنا أبا عبيدة سيبويه هذا العصر، وقد صدق، ونحن نقول: هو كذلك وزيادة لمن عرف وخبر شيخنا في إلمامه بهذا العلم في المدارس النحوية المشرقية والمغربية،…………..وما رأيته في يوم من الأيام يزهو على أحد من العلماء وطلبة العلم بهذا العلم، أو يتكبر على من دونه في ذلك ويزدهيه، بل يناظر في الفن ويناقش ويحاور ويُعلم ويوجه بأدب وتواضع، وما رأيته ينبز أحدا باللحن، أو يصف أحدا بأنه لحان، وإذا أومأ إليه أحد المتحذلقين أن فلانا قال كذا وهذا لحن ! رد عليه بقوله: وما يدريك ؟ فينهال عليه بتصويبها وتوجيهها وتخريجها على لغة من لغات العرب، وقاعدة من قواعد النحو الواسعة – إلا إذا كان فيها وجه واحد عند الجميع -، فيُكَوِّم أمام المومئ عشرات المصادر والمراجع اللغوية والنحوية الناصَّة على ذلك ويوقفه على صحة ما صوب ووجه وخرَّج في أماكنها ومباحثها.
وأنا غير مبالغ فيما قدمته عندما أقول: إن شيخنا رحمه الله هو أسد العلوم بحق وأسد السنة بصدق، في زماننا هذا، بل يمكن إلحاقه في هذه الرتبة بطبقة الحفاظ النبلاء الذهبي والعراقي وابن حجر العسقلاني وغيرهم من الحفاظ الأفذاذ، فقد طوى رحمه الله البساط بعده ولم يخلف أحدا مثله.
ونظرا لذيوع صيت شيخنا وسمعته العلمية عند علماء المشرق أكثر منه في المغرب، وما يبلغهم عنه من رسوخ في العلم وتميز في التحقيقات العلمية والنطق بالدقائق والنفائس الشرعية والنحوية، التي لا يتذوقها إلا الصيارفة النقدة المهرة ذووا الهمة العلية، كان بعض شيوخي المشارقة في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، يُحمِّلونني تحياتهم وسلامهم لشيخي، ويوصونني أن إذا قدم الشيخ لحج أو عمرة أو زيارة، أن أُعلمهم بذلك شوقا منهم للتعرف على شيخنا عن كثب، فإنهم لم يقنعوا و يكتفوا بالسماع عنه لما نمى إليهم، حتى يتم لهم اللقاء به وقد تم، وهذا أعلى درجات التحمل، و ليس من رأى كمن سمع !.
وعلى رأس هؤلاء المشايخ الفضلاء:
شيخي العلامة الفقيه الأديب المؤرخ اللغوي النحوي المدقق الحافظ محدث المدينة النبوية الشيخ حماد بن محمد الأنصاري رحمه الله تعالى.
وشيخي العلامة المفسر الفقيه اللغوي الواعظ البليغ المؤثر المربي الكبير الشيخ أبو بكر جابر الجزائري رحمه الله تعالى.
وشيخي العلامة الأريب المحدث الشيخ علي مُشْرِف العَمري حفظه الله تعالى.
وشيخي العلامة الذكي الألمعي النحوي اللغوي البياني الفصيح الخطيب المفوه المقتدر الشيخ جبران بن أحمد بن صالح المرحبي حفظه الله تعالى.
وشيخي العلامة الحصيف النبيه اللغوي النحوي الأصولي الفصيح الخطيب المقتدر الشيخ موسى بن محمد بن يحيى القرني حفظه الله تعالى.
وشيخي العلامة الفقيه اللغوي النحوي الفصيح الخطيب المقتدر الشيخ محمد بن زربان الغامدي رحمه الله تعالى.
وغيرهم ممن لا يقلون قدْرا وشأنا عنهم في المنزلة رحم الله من قضى منهم وبارك الله في عمر من بقي.
وقبل أن أختم هذه الكُليمة المتواضعة في حق شيخنا رحمه الله أريد أن أنوه بموقف واحد من المواقف الكثيرة التي وقعت لي مع شيخي وأنا أحتفظ بها لنفسي، لخبرتي الخاصة بنفسية شيخي رحمه الله في كراهة إفشاء الأسرار وترويج الأخبار وهتك أمانة مجالس الأخيار من قبل الأغمار، مع حبه الشديد لضد كل ما ذكر من ذلك. وتسويغي لما أقوله الآن أستحضر فيه موقف فاطمة بنت رسول الله ﷺ رضي الله عنها مع أُمِّنا عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، عندما أسر النبي ﷺ في مرض وفاته إلى فاطمة بشيء فبكت، ثم أسر إليها أخرى فضحكت، وأُمُّنا عائشة ترقب المشهد، فلما خرجت فاطمة من عند رسول الله ﷺ سألتها أمنا عائشة ما قال لها رسول الله ﷺ وما سبب بكائها وضحكها في مجلس واحد ؟ فأجابتها رضي الله عنها بقولها: ” ما كنت لأفشي سر رسول الله ﷺ”، فلما توفي رسول الله ﷺ واختار الرفيق الأعلى، لحقت أمنا عائشة رضي الله عنها فاطمة رضي الله عنها بالسؤال مرة أخرى ولم تيأس من أن تظفر بفائدة أو خصوصية، فقالت: أمَّا الآن فنعم !……فأخبرتها بما تعلمون.
أقول إن شيخي رحمه الله كان يتردد عليه من الناس على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم في إقامته وعند ظعنه،داخل المغرب وخاصة في مراكش، وخارج المغرب وخاصة في مكة المكرمة، الجحافل ممن لا يُحصي عددهم إلا الله في معظم الأوقات، وقد رُزق شيخنا رحمه الله طاقة هائلة من الصبر والتحمل وسعت الصدر، وأقصر حديثي هنا على طلبة العلم الوافدين والمتقاطرين على شيخنا والملاحقين له في كل مكان إلى حد الإضجار والملل، ومع ذلك فإن ظُفر به، فإنه لا يبخل عن أحد بالتعليم والتفقيه والتوجيه والإرشاد والنصح والمساعدة…، والمترددون على شيخنا من هؤلاء الطلبة فئات، منهم: الغث والسمين، والدر والخرز المهين، ومنهم الثَّقِفُ اللَّقِنُ، والمتعلم والمتحذلق الحِصْرِمُ المُتَحَصْرِمُ، ومنهم المُمَل الثقيل، والمُحبب الظريف الخفيف، ومنهم المُتفقه الراغب والمتفاصح المتعالم الراسب، ومنهم البشوش المؤدب والجافل المُقَطَّب. وبالجملة فمنهم من جاء صدقا وقصدا، ومنهم جاء تفَكُّهًا وهَزْلا.
في خضم هذه الأفواج والأمواج، كان شيخنا رحمه الله كما أعرفه حق المعرفة – وكما يعرفه زملائي الآخرون من طلبته- خِرِّيتا بأحوال الطلبة ومعرفة مآربهم ومقاصدهم لما جاؤوا إليه، فقد رزقه الله فراسة حادة وتوسما دقيقا، وحسا مرهفا، لا يكاد يخطئ في تقديره لمن بين يديه من الطلبة، فمن خلال جَلسة وحيدة يتميز لشيخنا بعياره الدقيق: الصحيحُ من السقيم، والصافي المحسوس من البهرج المغشوش، والدخيل من الأصيل، وطالب العلم الصادق، وطالب العلم المائن، وكثير منهم لا يشعرون، فشيخنا رحمه الله ذو خبرة سامقة بالطلبة…
وعندما تعاقدت مع جامعة الطائف والتحقت بكلية الشريعة والأنظمة / أي القانون / بها سنة “1428هـ موافق 2008 إفرنجية “، علمت على الفور بتواجد شيخنا بمكة البلد الحرام مقيما ومجاورا وملازما للطواف حول الكعبة والمقام، فبعد انتهائي من مناسك حج ذلك العام، بدأت أسال عن مُقام شيخنا أبا عبيدة رحمه الله لأقوم بزيارته، وكانت إقامته آنذاك بجبل هندي بالشامية، فلم أتمكن من الوصول إليه، حتى انتقل إلى حي ستر اللحياني في الجهة الجنوبية من مكة، فسألت من أعرف من طلبة العلم عن محل إقامة الشيخ بالتحديد، فعرفوا الجهة ولم يعرفوا المحل، حتى سألت الأستاذ الفقيه الكريم حسن بومزواري وكنت أتردد عليه بين الفينة والأخرى فقلت له: أريد زيارة شيخي أبا عبيدة لا شك أنه قد سمع بقدومي وتعاقدي مع جامعة الطائف، فقد يستبطئ زيارتي له، فهل تعرف محل إقامته في ستر اللحياني لتذهب معي إليه ؟ فأجاب مبتسما مستحييا نعم أعرف محل إقامته، ولكن أُفَضِّل أن يذهب معك أحد طلبته المتميزين، له حظوة عند الشيخ ويتردد عليه في جميع أو معظم الأوقات، ولا يرده، فشوقني الفقيه حسن، وقلت له: من هو هذا الطالب؟ فقال: وديع ! وكانت معرفتي بالطالب آنذاك قليلة، كانت معرفة عابرة التقيت به مع بعض الطلبة في الحرم وعند الفقيه حسن لقاءات يسيرة، لكنني تفرست فيه النجابة والذكاء والأدب والتواضع وحب العلم، فاستلمت رقم هاتفه ودققت عليه فيه، فسلم ورحب، فأخبرته بطلبي فاستغرب وقال: سبحان الله يا شيخ محمد أنت الذي تذهب بنا إلى شيخنا أبا عبيدة أنت من طلابه المقربين ولسنا نحن، فقلت له ومع ذلك فإنني سمعت عند معظم الطلبة أن لك حظوة عند شيخنا فأريد أن تشفع لنا في زيارته في أي وقت مناسب، فأجاب بالقَبول ورحب بارك الله فيه، لكني تمكنت من معرفة بيت شيخنا بوسائل أخرى قبل أن يذهب معي أخي الفاضل وديع، والتقيت بشيخي رحمه الله فهنأ ورحب وبش في وجهي كعادته وفرح بقدومي إلى البلد الحرام وتعاقدي مع جامعة الطائف، وسألني عن أحوالي وأموري فأخبرته بما يسره ويحب، ثم قلت له: شيخنا لقد تعبت في العثور على البيت وبمن يدلني عليه حتى قال لي بعض الطلبة وخاصة الفقيه حسن بومزواري هناك طالب له حظوة عند الشيخ ولا يرده في أي وقت ذهب إليه، فقال لي رحمه الله ” شكون هاذ الطالب ” من هذا الطالب ؟ فقلت له: وديع، فقال: ” الله أكبر تعرفت عليه ” هل تعرفت عليه ؟ فقلت له: مازالت معرفتي به قليلة. فقال لي رحمه الله:” ديال المعرفة، خصك تعرف عليه ” هو أهل أن يُتعرف عليه عليك بالتعرف عليه، فخرج من الغرفة مسلِّما، ثم دخل مسلِّما مرة ثانية وبيده قدح من لبن الإبل، وفي يده الأخرى طبق من تمر السكري، فقمت مسرعا فأخذت منه قدح اللبن الذي بيده اليمنى، فوضعته ثم أردت أن آخذ طبق التمر من اليد الأخرى فلم يُمَكِّنِّي منه حتى حوله إلى اليمنى، ثم قال لي: ” وديع حْلُو” وعند جلوسي بعده قال:” سبحان الله شحال ديال الطلبة دازوا، ما شفت أنا بحال هاذ الطالب، خفيف وظريف ما ثقيل ” ثم أتبعها بضحكته المعهودة تعجبا – يقول رحمه الله: سبحان الله كم من طالب جاء إلي ومر عندي وتردد، ما رأيت مثل هذا الطالب فإنه خفيف وظريف وغير ثقيل – وأنا في كل ذلك واجم لا أزيد على أن أقول: هنيئا له بكم شيخنا، هو محظوظ كما قيل لي، ثم خرج مسلِّما ثم دخل مسلِّما مرة ثانية وبيده طعام في صحن وخبز فتناولت ذلك باليمنى كليهما، وبعد الجلوس مباشرة، وقبل تناول الطعام قال لي:” يالله لقيت الطالب، غير تعرف عليه، راه ديال المعنى وديال العشرة أنا كانرتاح ليه، وراه فتحت ليه الباب في أي وقت إيجي ” – – يقول رحمه الله الآن وجدت الطالب بحق، فعليك التعرف عليه، فإنه صاحب معنى وصاحب عشرة مستحقة فأنا أرتاح إليه، ولهذا فتحت له بابي يأتيني في أي وقت شاء – فقلت له: شوقتني يا شيخي لهذا الطالب وديع، إن شاء الله أتعرف عليه وأقترب منه، فأكد علي مرة أخرى بذلك، ومن ثم بدأت معرفتي الخاصة بأخي وديع، وكنت كلما نزلت من الطائف إلى مكة في نهاية الدوام إلا سألت عنه وأحببت الالتقاء به ومجالسته إما في الحرم وإما عند أخينا الفقيه حسن بومزواري.
فانظر أخي الكريم إلى هذا الإرهاص من شيخنا والفراسة الشديدة في الحرص على معرفة هذا الطالب الوديع، فإنه بحق يكون عند اللقي به وديعا متواضعا مُبجِّلا، كما ألفيته معنويا حلوا كما قال شيخنا، فقد استشعر كل واحد منا تعارف الروحين وتآلفهما في آن، أدام الله علينا نعمة الحب في الله أوثق عرى الإيمان.
ذكرت هذا الموقف الذي عشت لحظاته الماتعة مع شيخي أثناء زيارتي الأولى له في ستر اللحياني بمكة، في حق أخينا وديع ومنزلته عنده فهنيئا له على ثقة شيخنا به وعَدِّه من طلبة العلم المعتبرين المحبوبين والمقبولين، ولولا ما ذكر أخي وديع ما سمعه من شيخي في شخصي الضعيف ما تفوهت بكلم، وقد كنت والله يشهد عندما أزور شيخي وألتقي به سواء في المغرب أو المشرق، أشد حياء وأخرص لسانا، لا أكاد أنْبِسُ ببنت شَفَة إلا لِماما، فالغالب علي السكوت والإنصات والإصغاء لدرر شيخنا وتحقيقاته وتحريراته العلمية المتنوعة، فأنا بين يديه منصت مستمع مستفيد أكثر مني متكلما، إلا إذا كان عندي أسئلة وإشكالات أريد استجلاءها وحل معضلاتها، وقد أُحْضِر معي بعض المصنفات التي أطالع فيها ليجلي لي ما استغلق علي منها وما استعجم وما استبهم، فأجد بغيتي وضالتي دون تلكؤ أو تأخر، بل يقبل علي رحمه الله بنفائس ودرر ودقائق ما يفتح الله به عليه يحتاج الوصول إليها إلى أزمنة و أعمار، وهذه عادتي مع شيوخي في المغرب والمشرق فإنني أستحيي أن أتقدم بين أيديهم بالكلام والنقاش – كما يفعل بعض المتحذلقين المدلَّسين- وقد جمعت بيني وبين شيخي العلامة اللوْذعي الشيخ الحسن وﮔـاﮒ رحلة إلى أمريكا عام 1419 هـ موافق 1998 إفرنجي، للدعوة إلى الله وإلقاء دروس ومحاضرات توجيهية وتربوية بمناسبة شهر رمضان المبارك ومعنا الأستاذ العلامة التربوي محمد بونيت رحمه الله والقارئ المتقن الإمام منير رحال، وبعد وصولنا إلى المركز الإسلامي ببروكلين في مدينة نيويورك اجتمعت بنا إدارة المركز لإطلاعنا على برنامج الدروس والمحاضرات في المراكز الإسلامية في ولاية نيويورك وغيرها من الولايات، فاشترطت على أعضاء الإدارة شرطين أساسين لا بد من تنفيذهما، الأول: ألا يكلفوني بجمع الأموال والتبرعات من الناس…! والثاني: ألا يجمعوا بيني بين شيخي وﮔـاﮒ في مسجد واحد وحصة واحدة للتعاقب على الإلقاء أمام الجمهور، فإني لن أقوم بذلك أبدا، واعتذرت لهم بأن الشيخ الحسن وﮔـاﮒ شيخي ومعلمي وأنا أستحيي أن أتكلم أمامه بشيء… فحققوا شرطَيَّ جزاهم الله خيرا…
إذن فقول شيخي أبا عبيدة ما قال ” إنني أستحيي من هذا الرجل ” يعنيني، إنما هو إمعان في تواضعه، وإيغال في سلامة صدره، وصدق محبته لطلبته…، فجزاه الله عني وعن طلبته كافة والأمة الإسلامية شرقا وغربا خيرا وصالحة، وشكر الله له ما قام به من التعليم والتوجيه والتربية والنصح والتسديد والتقويم .
وقد أملى علي رحمه الله هذه الأبيات وكتبها إلي كذلك بيده الكريمة في قصاصة لا أدري الآن أين هي بين الأوراق في مكتبتي:
إذا أفـادك إنسان بفائـدة من العلوم فأكثر شكره أبدا
وقل فلان جزاه الله صالحة أفادنيها والغ الكبر والحسدا
فالحر يُظْهر شكرا للمعين له خيرا ويشكره إن قام أو قعدا
فجزاه الله عنا صالحة وخيرا، ورحمه ورفع درجته في عليين، وجعله من الشهداء ومع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، نسال المولى عز وجل أن ينور عليه قبره ويفتح له فيه مد بصره، ويجعله ممن فُرج لهم فرجة إلى الجنة ويُقال لهم: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، اللهم استجب دعاءنا ودعاء ملائكتك، والحمد لله رب العالمين.
وبعد انتهائي من هذه القبسات من سيرة شيخنا أبا عبيدة رحمه الله، وشرعت في رقنها، وصلتني بعض التسجيلات المسموعة والمقروءة لبعض الأساتذة الفضلاء والطلبة النبلاء، في التعريف بشيخنا والتنويه بسَعة علمه وجهبذته وحدة ذكائه وتفنُنِه في علوم شتى، وخاصة علم العقيدة وتوحيد الرحمان، وعلم القراءات و النحو واللغة والبيان، والإلماح إلى رفيع أخلاقه وسمته وتواضعه وزهده وورعه وسخائه وكرمه وإنفاقه ومُلَحِهِ، وحبه للعلم والعلماء وطلبة العلم، وشغفه باقتناء الكتب والمصنفات في مختلف التخصصات مهما بلغت أسعار الطبعات، فلما سمعت وقرأت فاضت عيناي بالدموع فرحا أن كل ما ذكروه وألمحوا إليه عن شيخنا أبا عبيدة ملتقطا من هنا وهناك تحمُّلا أو سماعا، وافق بالمطابقة ما ذكرته وسطرته وألمعت إليه في حق شيخنا فخرج الخبر من حد الشهرة والاستفاضة إلى حد التواتر اللفظي والمعنوي، فالله الحمد والمنة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد سيد الأمة وهاديها إلى ظلال الجنة.