“الدجاجة غسلت رجليها ونْساتْ ما داز عليها” مثل شعبي كثير التداول، وله أكثر من صيغة، ومنها: “الدجاجة ما كينشْفُـو رجليها كتَـنْسى ما داز عليها”، حيث ورد لفظ “ما” مرتين بمعنيين مختلفين، الأولى ظرفية (عندما، بمجرد ما)، والثانية موصولية (الذي). والمثل وارد في ثقافات شعوب عربية ومنها السودان، وروايته تقول: “الجدادة أول ما ينشفوا كرعيها تنسى الحصل عليها”، و”الجدادة” في اللهجة السودانية تعني الدجاجة. وعلى الرغم من اختلافات صيغ المثل وألفاظه، فالمعنى واحد، ذلك أن ذاكرة الدجاجة ضعيفة، فسرعان ما تنسى ما مر معها، وبالتالي تعود لما انتهت منه للتو دون اعتبار أو اتعاظ، وهكذا تعيش الدجاجة في دائرة شبه مغلقة من ذات الأحداث والنتائج.
إن هذا المثل ذو مغزى عميق في حياتنا أفرادا ومجتمعات، وهو على بساطته لغة وتركيبا وتصويرا غني بالدلالات والعبر ومنها على سبيل الاستئناس:
لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بالنسيان رحمة به وتخفيفا عليه من التعلق بما مر به من أحداث والارتهان إليها، غير أنه وجب التمييز بين النسيان وهو من طبيعة الإنسان وعلامات قصوره، فسبحان الذي لا تأخذه سِنة ولا غفلة أو نوم، وبين التناسي مع نوع من القصد.
إن الدجاجة قد تأتي أفعالا تعرضها للتوبيخ، كأن تخوض في مياه وسخة أو طين أو أوساخ، فتلوث المحيط، أو تعمد إلى حبوب قمح معروضة للشمس، وتتلف أكثر مما تأكل، فتتعرض للضرب أو الطرد بعيدا، لكنها سرعان ما تعود، إذا سنحت لها الفرصة، لذات الأفعال غير آبهة بتوبيخ أو عقاب.
هذا في حق كائن يشفع له ضعف ذاكرته في تصرفاته، لكن لا يُـقبل من إنسان يُـفترض فيه العقل والتذكر، وإلا لما استحق شرف تحمّل مسؤولية عمارة الأرض وبناء الحضارة؛ لذلك يُشهر هذا المثل في وجه من لا يستفيد مما مر به من أحداث، وما صدر منه من تصرفات، فيرتكب ذات الأخطاء والحماقات تشبيها له بالدجاجة بما هي رمز لضعف الذاكرة.
وتبقى أكثر مجالات استعمال هذا المثل في حالات من تسلقوا السلم الاجتماعي بطرق ملتوية، فحازوا حظوة بعد وضاعة، وغنى بعد فقر، ونسوا أو تناسوا ماضيَهم، وربما بذلوا جهودا مضنية للتخلص مما يذكرهم بما يخدش في “جاه” مزيف أو غنى غير مشروع، فيغيرون السكن والجيران والمعارف والعوائد وأنماط الحياة.
إن تحسين ظروف معاش الإنسان والطموح للأفضل مشروع ما تُوُسّل له بأسباب مشروعة، لكن السعي لذلك على حساب المبادئ والقيم يكشف طبيعة معدن الإنسان، فمن كانت “الغاية تبرر الوسيلة” عنده دل ذلك على انحطاط قيميٍّ وخسة طبع.
أما على المستوى الإيماني، فقد زجر القرآن الكريم من ينسي أو يتناسى عواقب أفعاله ويستخف بلقاء ربه. يقول جل وعلا في سورة “الكهف”: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ(57)، فأيهما أفدح وأبشع عاقبة، تصرف الدجاجة مع الإقرار بضعف ذاكرتها، أم إعراض الإنسان المُعرض عن نداء الاستجابة والإيمان بالله ونسيان يوم الحساب؟ ومن كان هذا حاله، ولأن الجزاء من جنس العمل، جاء الوعيد الإلهي في سورة “الجاثية”، حيث يقول سبحانه: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ(33).
وما قيل عن الإنسان فردا ينسحب على الأقوام والمجتمعات، فقوم فرعون التمسوا من سيدنا موسى عليه السلام أن يتوسل لله تعالى لرفع ما حل بهم من عقوبات مقابل الإيمان بالله وتسريح بني إسرائيل وتخليصهم من بطش فرعون، لكن نسيانهم لِما قطعوا من عهود على أنفسهم، وإصرارهم على نكث الوعود جلب عليهم الطوفان والغرق. يقول الحق سبحانه في سورة “الأعراف”: قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(133،135).
مناورة بئيسة وثقها القرآن الكريم مثالا خالدا للاستبداد حكما وعلوا في الأرض، واستخفافا بإرادة الشعوب، فلا يتردد حكام الجبر عن إعلان ما يشبه “توبة” الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فيقترحون حزمة إصلاحات، ويطلقون سيلا من وعود القطع مع التسلط مجاراة لغليان الشارع والتفافا على مطالب الحرية والكرامة والعدالة؛ لكنهم سرعان ما يتنكرون لوعود الإصلاح اعتقادا منهم أنهم خرجوا من عنق الزجاجة، وما أدركوا أن قطار الإصلاح قد يتأخر بما اللهُ به أعلم، لكنه حتما لن يُـلغى أو يُـقفز عليه، ذلك أن سنة الله لا تُخلف ولن تجد لها تحويلا. يقول عز سلطانه مخاطبا كل فرعون رمز الطغيان، ومن خلاله فراعنة زمانهم في سورة “يونس”: الآن وَقَد عَصَيت قبلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلمفسدين فاليوم نُنَجِّیكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَن خلفك آية َوَإِنَّ كَثِیرا من ٱلنَّاسِ عَن آياتنا لَغَـاٰفِلُونَ(92،91).
ومع كل الاحترام والتقدير للدجاجة، بما هي خلْق من خلق الله تعالى، فالحذرَ، الحذرَ أن يرضى العاقل أن يسلك مسلك الدجاجة، فيتنازل عن ذاكرته رغبا أو رهبا، وتنسيه الامتيازات وشهوة تصدر المجالس مبادئه التي أفنى زهرة عمره منافحا عنها، بل ويتحول إلى بُـوق لمن كان بالأمس القريب يعتبرهم خصوما للعدالة وحقوق الناس.
فحمدا لله أنْ سخر لنا أضعف خلقه للاتعاظ والاعتبار من أحوالها وتصرفاتها، وقد يكون لنا جميعا حظ من تصرفات الدجاجة، فلا نعتبر مما يُتاح لنا من فرص، والكيِّسُ من اتعظ بغيره ودان نفسه بالتقصير، وشمّر على ساعد الجد والعمل، واشتغل بمعالي الأمور. والحمد لله رب العالمين.