لقاح “كورونا” .. هل تنتصر القيم الإنسانية على الهواجس التجارية؟

أستاذ التعليم العالي في كلية الحقوق بجامعة القاضي عياض، مراكش

مع تفاقم الأوضاع الصّحية والاقتصادية والاجتماعية وحتى النّفسية..، بسبب تمدّد وباء “كورونا” الناتج عن فيروس “كوفيد 19″، في عدد من دول العالم، أصبحت الأنظار تتّجه نحو المختبرات العلمية التي وصلت فيها الأبحاث إلى مراحل متقدّمة، حيث بدأت الكثير منها في إصدار تقارير تبشّر بتقدم كبير على هذا المستوى.

وهكذا، أكّدت منظمة الصّحة العالمية أن هناك أكثر من 200 لقاح قيد التجربة في هذا الخصوص، 26 منها وصلت إلى مرحلة التجارب السّريرية على البشر.. وأمام هذه التطورات، طرحت العديد من الأسئلة، فأمام خطر شلّ الحياة الاقتصادية عالميا، وأصبح يهدّد الإنسانية جمعاء، هل يمثّل تعدّد التجارب أمرا صحّيا، يعزّز التّنافس، لتحقيق سبق علمي، سيسجّله التاريخ؟ أم أن في ذلك هدر للإمكانيات وللوقت، أمام وباء متسارع يقتضي التنسيق والتضامن؟ وهل ستتاح التلقيحات في حال توافرها بالنسبة للدول الفقيرة، بأثمنة في المتناول، أم أن هاجس الربح سيطغى على حساب المعاناة الإنسانية؟ وهل يمكن القبول بتحقيق ربح رغم أن الأمر يتعلق بجائحة خطيرة عابرة للحدود، علما أن الكثير من الدول خصّصت تمويلات ومنح كبيرة، لإجراء البحوث المتعلقة بهذا الشأن، مصدرها الضرائب التي يؤدّيها المواطنون؟

تتضارب وتتباين الأجوبة الواردة في هذا الخصوص، ففي الوقت الذي يؤكّد فيه البعض على ضرورة تنسيق الجهود العلمية والمبادرات الدولية، وتجنيد الإمكانيات المالية والتقنية، على طريق تعزيز الأبحاث، في أفق طرح لقاح غير مكلف، يتيح وقف تمدّد الوباء وعودة الحياة إلى طبيعتها، يعتبر البعض الآخر، أن تنويع الّلقاحات بين مختلف المختبرات والشركات، هو مدخل سليم سيدعم التعاطي مع الموضوع من زوايا متعددة، من شانه أن يغني حقل التجارب، ويوسّع من هوامشها نجاحها، في إطار من التنافس، الذي سيسمح بتسريع وتيرة الأبحاث، ويدعم الجهود الرامية إلى انحسار الوباء ووقف خطره..

في شهر أبريل الماضي، وفي عزّ تطوّر تداعيات الوباء، أعلن عدد من العلماء والأطباء والمموّلين والمصنّعين من مختلف البلدان (الولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، وبريطانيا، والصين، وأستراليا وكندا، والأرجنتين وإسبانيا، وهولاندا، وفرنسا، واليابان والنرويج، وكوريا الجنوبية، وسويسرا، وجنوب إفريقيا، والسويد، وألمانيا، وسنغافورة)، تكثيف الجهود، في إطار تعاون دولي تشرف عليه منظمة الصحة العالمية، من أجل التوصل بشكل سريع إلى طرح لقاح فعّال وآمن ضد الوباء، يكون متاحا للجميع.

ورغم القصور الملحوظ الذي طبع تعاطي منظمة الصّحة العالمية مع الجائحة في بداياتها، فقد أطلقت قبل بضعة أسابيع تجربة “التضامن” السّريرية، كسبيل لدعم الجهود الدولية في إيجاد علاج ناجع لمرض كوفيد-19، وتتمحور هذه المبادرة حول اعتماد مقارنة بين عدد من الخيارات العلاجية بعدد من البلدان، لتقييم الأنجع منها، على مستوى القضاء على الفيروس، والمساعدة في التوصل السّريع إلى طرح أدوية فاعلة في هذا الخصوص. كما طالبت دول العالم بتوفير حوالي 100 مليار دولار كدعم يساعد على إيجاد لقاح للوباء، والحدّ من تفشّيه.

وفي نفس السياق، دعا الملياردير “بيل غيتس” إلى إنتاج الّلقاح داخل البلدان النامية، محذّرا من أنّ هذه الأخيرة، لن تتمكن من الحصول على اللقاح في الوقت المطلوب، في حال خضوعه لمنطق السوق التجارية، ما سيعمّق جروح الأوضاع الصّحية والاجتماعية أكثر..

فيما اعتبر الأمين العام الأممي “أنطونيو غوتريس” أن اللقاح ضد فيروس “كوفيد 19” يمثّل “منفعة عامة عالمية”، ومن جانبها عبّرت بعض دول الاتحاد الأوروبي، ومؤسسة “بيل غيتس” عن توجهّها نحو جمع أكثر من 8 مليارات يورو لصالح منظمة الصّحة العالمية، كسبيل لإحداث وكالة دولية، تعمل على توفير اللقاحات والأدوية لدول العالم قاطبة.

وضعت الجائحة مجموعة من القيم والمبادئ المتصلة بالتعاون والتضامن الدوليين، على محكّ الواقع، ففي مقابل هذه الجهود البناءة، فضّلت الكثير من الدول الكبرى التعاطي مع الأزمة من منظور المصالح الضّيقة، والانكفاء على الذات، ووصل الأمر إلى حدّ منع تصدير الآليات الطبّية نحو الخارج.. ورغم أن الأمر يتعلق بوباء عالمي عابر للحدود، فقد أكّدت الكثير من الدول، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة، وعدد من البلدان الأوربية على ضرورة إعطاء الأولوية للحاجيات الداخلية من اللّقاح أولا، بعد إنتاجه..

وفيما يعتبر الكثير من الخبراء والمهتمين أن خطورة الأمر تقتضي تخلّي الشركات المنتجة عن هامش الربح، في سبيل إيصال الأدوية واللقاحات إلى مختلف الفئات المجتمعية، وإلى كل الدول الفقيرة، حيث تتضاعف المعاناة الصحية، بوجود إشكالات اقتصادية واجتماعية وبيئية أكثر قساوة، تبرّر الكثير من شركات الأدوية العالمية توجهّها إلى تحقيق الربح من وراء هذه اللقاحات، بنيّتها في توظيف ذلك لتطوير البحوث العلمية..

بين نظرة متشائمة تنخرط فيها حتى منظمة الصحة العالمية، ترى بأنه لا مجال للقاح فعال إلا بعد حلول عام 2021، وبخاصة وأن تطوير لقاحات سابقة ضدّ عدد من الفيروسات الخطرة، تطلّب مددا تجاوزت العقدين من الزمن أحيانا، حيث يؤكد الكثير من الخبراء والمختصين أن تطوير اللقاحات لا يخلو من صعوبات وتعقيدات جمّة، تنضاف إلى كلفته العالية ماديا، ونظرة متفائلة ترى في تقدّم الأبحاث الجارية، وبلوغها إلى مستويات جيّدة، يمثل مؤشرا على اقتراب طرح لقاح قد ينهي الصفحة القاتمة التي فتحتها الجائحة على العالم..

شكّل إعلان البدء في إنتاج اللقاح الروسي، الذي تم إطلاق اسم “سبوتنيك 5” عليه، بارقة أمل في هذا الخصوص.. رغم الانتقادات الغربية التي شكّكت في نجاعته وشروط سلامته.. وقد سارعت العديد من البلدان نحو إبرام عقود وصفقات للحصول على اللقاح قبل خروجه إلى حيز الوجود..

وبغض النظر عن الوقت الذي سيكون فيه اللقاح جاهزا، وعن الدولة التي سيكون لها السبق في هذا الخصوص، فالواضح أن هذه المرحلة ستمثل محطّة حاسمة لقياس مستوى الرقّي الإنساني لدى الكثير من الدول المتقدمة التي طالما تبجحت بالدفاع عن حقوق الإنسان..