الأوروعربية للصحافة

الحقيقة والألم

باحث في علم النفس التربوي بتطوان يكتب عن الحقيقة والألم

الحقيقة ذوق رفيع، تتلقفها القلوب النيرة وتختفي في الألسن اللاهثة…

الحقيقة شقشقة الشجن، تبتسم من خلف الأسوار المتهالكة للإمبراطوريات البائدة…

تتسرب الحقيقة من بين تراب وأحجار خراب الجبروت الذي أباده الدهر…

في الصبا نرى الحقيقة في غناء الرعاة، ورقصات السنابل، وأعشاش العصافير وهي براءة ترسم لنا علامات الطريق…

يرى المقهور الحقيقة تلوذ بسقائف أضرحة الأولياء، وفي حجارة المساجد، وفي روائح المحراب، وفي أسمال الزهاد…

قوة الحياة جازفة، لهذا قليل من الناس من يسعفه الحظ للقاء الحقيقة…

تقاوم الحقيقة السكون في أعشاش دائمة، إنها شقيقة الترحال…

للحقيقة أصوات، تسمع من انفجار الماء من الصخور، من هبوب الرياح في البحار المتلاطمة أمواجها، من هدير العواصف المزمجرة… ومن حشرجة صدر أم فقدت فلذة كبدها…

في خفوت الضوء بعد المغيب، في انبلاح الصباحات المبتسمة، في لعب الأطفال في ركض الصبايا وراء الفراشات تأتي الحقيقة لتعزف لحنها الإنساني الجميل…

تكتب الحقيقة بعضا من دروسها على تجاعيد إنسان لم يتجرأ قط، طول حياته، على مد يده للحرام، كما تنام بين أنامل عجوز ورعة تداعب حبات سبحة وهي جالسة على حصير، في المآتم الكئيبة وفي الأشجان الطروبة تحكي الحقيقة شيئا من سيرتها المؤلمة…

حتى الشعر نادرا، ما يتفوق في جعل بحوره حقلا لغواية الحقيقة بالرقص والتجوال…

الحكي عن سيرة الأولين، ومناقب السابقين، وأفعال الرجال الصالحين، يجعل الحقيقة رفيقة العبارة، ودليل بلوغ الحكمة المتوخاة في قلوب المستمعين أو القارئين…

في الموسيقى التي لا يصاحبها الغناء تغني الحقيقة مواويلها…

لا متعة بدون ألم، ولا حقيقة بدون تعب…

من عرف الله تجلت في قلبه الحقيقة كحدس به يبصر ما لا يراه المنقطعون عن الغيب…

الحقيقة الغائبة تطهرنا من الوهم، تشفينا من الوهن، تزكي قلوبنا بحب المطلق، تعلمنا كيف نتحرر من الرداءة وهي متوجة في أجمل الأزياء….

من الأفضل أن ندع المغلوبين يكتبون حقيقة ما وقع…

كل ما يكتبه الغالب عن المغلوب هو حقيقته، وليس حقيقة المغلوب…

شعوب معتقلة في ألم الحقيقة، تسير بسرعة أكبر من تلك التي تنام في حدائق الوهم…

ألم الحقيقة جاف وقاطع…

إخفاء الحقيقة يفتح الأبواب ليدخل الخوف منتصرا على كل القلوب….

الحقيقة هي الموضوع المفضل دوما لكل مؤامرة…

جرح الحقيقة أفضل بكثير من صحة مزيفة…

تبنى الإنسانية السامية بندوب الحقائق المتعاقبة…

قول الحقيقة يزعج النفوس الرديئة….

الأغبياء يميلون إلى الكلام الذي يحثهم على الغرق في أوهامهم الوردية…

ما وقع في الماضي ليس هو ما تحكيه كتب التاريخ…

الحقيقة كالريح لا أحد يعرف متى تقرر مداعبة أوراق الشجر…

تسكن الحقيقة الأعماق، لكنها قد تتجلى عارية من كل لون في ضوء النهار…

تسود العدالة في المجتمعات التي تسعى بدون كلل لنصرة الحقيقة…

تبدأ الحقيقة من الاعتراف أولا بأننا أنانيون…

في الفواجع تظهر حقيقة البشر وهم سكارى بين الموت والشرود….

من لم تعلمه العبادة حب التواضع لن يعرف حقيقته أبدا…

الخوف هو حقيقة الإنسان الأولى، يقضي كل حياته لإخفائها أو تجنب النظر فيها…

ليس صراح الشوارع إعلانا عن تحرير الحقيقة؛ الحقيقة تقال همسا في صمت القلوب الذبيحة، ولا ترقص انتشاء تحت أضواء الكاميرات…

في صمت الصلاة يعرف كل متعبد حقيقته الباطنية بعد زوال حجب النفس المتكبرة…

يجذبنا الغموض لأنه من طبيعتنا…

الطبيعي هو أن نلتهم ما نحب، والأخلاقي يحذرنا من ذلك، والخيال يمنحنا الشعر لنسيان هذا الجوع، وفي هذه المتاهة يتعلم الإنسان صناعة الأقنعة والمساحيق…

في البدء كانت الكلمة، وفي السير كان النسيان، وفي الختام ذبحت الكلمة…

وكانت الظلمة…

يقاتل المؤمنون بالأديان بعضهم بعضا، هل المشكل في الأديان أو في عقول الذين يؤمنون بها.

لم يخلق الله الأرض أوطانا وحدودا، بل جعلها حقلا مشاعا بين الناس…

أحيانا قد تدمر الحقائق القلوب، لكن مقابل تطهيرها من مرض الرياء الذي لا شفاء منه إلا بالبتر…

تعلمنا التقاليد نسيان الحقيقة حتى نبقى مبتسمسن في وجوه بعضنا البعض…

صوت الحقيقة مجلجل حينما يتفجر في وجه سجانيها…

تلين السجون التي فيها تحتجز الحقيقة لأنها تخجل من سموها العابر لكل الأسوار…

الحقيقة جراحة تجميلية للروح المعذبة…

عودنا الخوف قول الحقيقة همسا تحت جنح الظلام…

الهوى يقول الحقيقة وهو يترنح في سكرات الألم…

ليست الحقيقة شفرة حلاقة تقطع لحم الكذب لتسيل الدماء، بل إنها قلم جريء يسهل علينا كتابة ما تم حذفه…

قول الحقيقة لا يعني نزع رداء الحشمة عن أسرار الناس، بل هو الهمس المؤدب في أذن المعني يها…

تصبح الحقيقة مخاضا موجعا عندما لا تجد قلبا صافيا تستقر فيه…

لا تقال الحقيقة للصبيان في شكل أمثال وحكم والعالم حولهم ينتصر فيه الكذب على كل الفضائل…

أرانا الله حقيقتنا في التراب، أما الإنسان فقد صنع لنفسه أوهاما ليتفادى الجلوس المتواضع على الأرض…

من أسباب الألم الفظيع تأجيل سماع الحقيقة….

منذ فجر التاريخ لا زال الكذب لم يتعب من حفر قبر الحقيقة…

أهل الحقائق ظلال لهامات لا تراها العيون التي اعتادت رؤية مهرجانات الكذب….

تتحايل اللغة بالمجاز عندما تزورها الحقيقة، وتلوذ بالرمز لتخفف من وهجها الحارق….

لعل هشاشة الإنسان هي السر في نفوره من لقاء الحقيقة….

الإنسان السوي يفضل سماع القول الذي يذكره بعيوبه…

من عود نفسه على صحبة خالقه، تجلت له الحقائق كعصافير تداعب صفاء السماء…

في رفقة العارفين تشتعل الروح شوقا للفناء في جمال الحقيقة….

يحب الناس المجاملة والثناء، إنهم صبيان يحنون لدفء أمهاتهم…

عندما تكون الحقيقة صادمة، يتلوها الضحك الساخر….

في الفراغات المهولة للكذب، تقيم الحقيقة أعراسها…

يأتي الحلم ليلا ليضعنا وجها لوجه مع ما لا نرغب في رؤيته…

الكوابيس تعلمنا كيف نتجنب إخفاء ما يزعجنا…

بين النوم واليقظة، تقطع الحقيقة مسافات ذهابا وإيابا، بحثا عن منفذ حتى تخيرنا بدواء ناجع ضد النسيان…

في كل المسارح توجد كواليس، وكذلك حياة الناس عيبها الأكبر كثرة كواليسها…

 

العنوان: حوار العقل والروح 

للكاتب: عبد الإله حبيبي | باحث في علم النفس التربوي

الطبعة الأولى 2016

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.