المدير برهون حسن 00212661078323
كاتب وناقد سينمائي من المغرب
تطرح مقاربة أي متن سينمائي على مدى حقبة تاريخية معينة مجموعة من التحديات الأدواتية والمفاهيمية وهي:
ـ أولا، مدى مصداقية هذا المتن في تمثيل حقبة تاريخية بقدها وقديدها، كما يقال.
ـ ثانيا، إما يجبر الباحث على التركيز على منهجية معينة دون سواها، أو خلق نوع من التركيبية في بسط قضايا الفيلم المغربي تحديدا من خلال حساسيات ومرجعيات متعددة تجمع حينا بين ما هو سوسيولوجي في تقريب السلوكيات وأنماط العيش لدى الفئة التي تمثلها الأفلام من خلال العمران والموضة ووسائل النقل، ثم ما هو سيكولوجي على اعتبار أن الفيلم عموما ينقل أطيافا متعددة من التمثلات الاجتماعية والنفسية والتي تنكشف من خلال أفعال الشخصيات وأقوالها وشكلها وطموحها.
ـ ثالثا، قد تدفعنا هذه الرغبة إلى استقراء الفيلم كورقة توثق لمجمل الانشغالات التي حملها الفيلم، سواء لأفراد أو لجماعات انطبعت بالتحولات الفكرية والثقافية التي شهدتها تلك الحقبة من خلال مجموعة من القواعد الفنية والإخراجية التي كانت سائدة وقتئذ.
ـ رابعا، ضرورة تمثل المرحلة للاندماج في شكل الفيلم ومضمونه بالرغم من التباعد الزمني وتأثر ذوق المشاهد بركام معرفي وجمالي قد يعمق من المسافة النقدية الضرورية في إدراك الفيلم.
ـ خامسا، مدى علمية المنهج التحليلي في اقترابه من الموضوعية وابتعاده عن كل أشكال الأوهام والمغالطات التبخيسية التي إما تؤمن بجلد الذات أو بنظرية المؤامرة.
أرى أن مرور نصف قرن على السينما المغربية يتطلب منا جميعا مثل هذه الوقفة التأملية لإمعان النظر في ذواتنا بقدر كبير من الوعي والإنصات. بالتالي، لا يمكن أن نحقق النهضة السينمائية المنشودة من دون اختيار محطات للتأمل في واقع القطاع السينمائي وضبط اختلالاته مع دعم نقط القوة فيه. وتكون لنا الجرأة الضرورية لتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية.
إن النظرة الشمولية هي الكفيلة بوضع الأصبع على مواطن الخلل. كما أن القوالين الذين ينزعون للمواقف المتطرفة غالبا ما يسقطون في الذاتية المفرطة أو في الأحكام الأصولية. إن القول باحتضار السينما المغربية ولو بصيغة السؤال يتضمن نسبا من هذا ذاك وفيه نوع من الانتظارات لملء فراغات على أجوبة مفترضة قد تظل مغيبة أو مفتوحة.
صحيح أن السينما المغربية، ولو اختلفنا عن سنة انطلاقتها الحقيقية استنادا لمعايير تاريخية أو جغرافية، لا يمكن أن تمحى بسهولة من خارطة السينما المتوسطية أو العربية أو الإفريقية على الأقل حتى لا تكون لدينا أوهام كثيرة ونتحلى بشيء من الواقعية.
تتباين مناهج التقييم بين الخطابات التبجيلية التي لا تراعي من أمور السينما سوى الأرقام والكم، ثم هناك المناهج التحليلية المتصفة بالنقد والنقد الذاتي. أعتقد أنه بإمكاننا خلق نوع من المصالحة بين مناهج التحليل.
وهذا أمر حتمي لخلق نظرة موضوعية وشمولية لتحقيق إقلاع حقيقي. إقلاع يستند من جهة للقرائن والوقائع الثابتة كالقرصنة وإغلاق القاعات والعزوف عن الذهاب للسينما وهي معطيات بادية ولا اختلاف حولها، ومن جهة أخرى حول مدى نجاح السينما المغربية وانتشارها وقيمتها الجمالية ونضجها الفكري. بالنسبة إلى القرائن الثانية نكون آنئذ أمام معطيات تستوجب أكثر من قراءة بحسب مسافة المواقع من المسؤولية ومن الرؤية العلمية المنضبطة وغير المتسرعة في إصدار أحكام أخلاقية أو أيديولوجية أو مناسباتية.
صحيح أيضا أن السينما المغربية تشارك في العديد من المهرجانات ويحتفى بها كضيف شرف أو بمخرجيها هنا وهناك. إذن، نعود لكيفيات اختيار معايير نجاح سينمانا. فهل الأمر موكل لأصحاب النظريات الستاتيستيكية أم للواقفين على جودة المنتوج من حيث جدية الطرح وبلاغة اللغة، وسمو القضايا وإقبال الجماهير ولو أن المعيار الأخير لا يخلو من مجازفة؛ فالعديد من الأفلام تحقق مداخيل مهمة لكنها استهلاكية وشعبوية كأفلام سعيد الناصري وفركوس وغيرهما.
السينما المغربية تتحقق من خلال دورات إنتاجها وما يصاحبها من خطابات رسمية أو على الهامش. كما تتحقق بفعل إشعاعها وحضورها وطنيا من خلال خارطة التظاهرات والمهرجانات والملتقيات السينمائية بحلوها ومرها؛ لكن هذا على الأقل يثير قدرا من الأسئلة والقضايا، ومن حق الجميع أن يجيب عنها لإغناء الحوار وإرساء دعائمه. الأجوبة تأتي طبعا من خلال المتابعات الصحافية، ومن خلال عشاق السينما العارفين منهم والهواة. المهم هو هذا الحراك على مستوى الاستفسار والاستقبال، ثم نشر وإدراك ونقد المكون السينمائي بكل مقوماته. أعتقد أن هذه مرحلة ضرورية من أجل القبض على الثور من قرنيه.
طبعا، تبقى هناك ظواهر شاذة وبها نوع من الغرابة. مهرجان مراكش السينمائي مثلا مكسب للمغرب لكونه عالميا ومحطة جذب ثقافي وسياحي مهم؛ لكننا عندما ننتقل لتقييم المهرجان من حيث تمثيليته السينمائية للسينما الوطنية والسينمائي المغربي، هنا تتعقد الأمور لتخرج عن إطار السينما وتدخل في مجالات النفوذ السياسي وعلاقته بالمرجعيات الثقافية والفنية.
أعتقد أن المغرب السينمائي ليس مسؤولا عن اختيار فيلم مغربي أم لا إذا كانت للمهرجان إدارة خاصة به ولجنة تأسيسية تعطى فيها الصلاحيات لجهات أجنبية أكثر من غيرها في الحكم على هذا الفيلم أو ذاك. إن هاته الهيمنة التي تحدث عنها الزميل المسناوي أسالت الكثير من المداد وهي ممتدة في تاريخ الفن المغاربي من حيث محاولة بعض الجهات المتفرنسة فرض نوع من الذائقة الفنية على المغاربة، وهذا الأمر ليس بغريب حتى لدى بعض السينمائيين والنقاد الذين ظلوا متشبثين بما هو فرنسي أكثر من الفرنسيين أنفسهم.
يتساءل المسناوي إما أن العدد ليس صحيحا أي إخراج أكثر من 15 فيلما في السنة أو أن الأفلام المنتجة لا ترقى إلى المستوى المطلوب؟ أقول إن السبب الثاني هو الأقرب إلى الصواب؛ لأن اختيار أفلام المسابقة الرسمية في مراكش مثلا لا يمكن أن يفرض نفسه فقط لكون مخرجه مغربي أو لأن المهرجان ينظم في المغرب. لعل هذا يطرح إشكاليات أخرى قد تفتح نقاشا من نوع آخر أشرنا إلى بعض تجلياته.
إن تشخيص ومعرفة المعوقات الذاتية والموضوعية التي قد تراهن عليها السينما المغربية تستدعي إشراك كل الفاعلين السينمائيين لمعرفة ما تحقق من حيث قيمة الإنجازات وما لم يتحقق على المديين القريب والمتوسط، هذا إذا كنا قد انطلقنا من رؤية واضحة حول الإستراتيجية السينمائية ضمن المشروع الثقافي للمغرب.
الأمر يتطلب، إذن، سلسلة من البرامج في مقدمتها :
ـ برامج للعمل Plans d’action
وتتضمن كل الحلقات التي يمر بها المنتوج، بدءا من الإبداع والتكوين في مهن وثقافة السينما والإنتاج من لدن أصحاب رؤوس المال والاستثمار والدولة.
ـ برامج للحماية Plans de protection
تتمحور حول التوزيع والدعم، لإشهار والتخفيض الضريبي، وكذا بناء المركبات وإيصال المنتوج إلى المواطن البعيد ثم الدفاع عن المنتوج المحلي مقابل المواد المستورة في السوق الثقافية.
ـ برامج للتقييم Plans d’évaluation
وتتجلى من خلال الاستماع لكل الفاعلين في الميدان والمتعاملين مباشرة مع السينما كمهنيي القطاع ومالكي القاعات والمخرجين والنقاد والأساتذة وأصحاب المنشورات والقنوات الإذاعية والتلفزيونية؛ والتحقق من النجاعة / الكفاءة / التعاون وسط القطاع ومع محيطه، إن على المستوى القطاعي أو التنظيمي.
أما على المستوى المالي:
ـ تحقيق الجودة في كيفيات التمويل والالتزام بدفتر التحملات وتنويع مصادر الميزانيات المخصصة للقطاع
ـ التنصيص على العقوبات الجزرية في حالة الإخلال بالاتفاقيات المبرمة تفاديا لهدر المال وضمانا لحقوق المواطنين في منتوج وطني بمواصفات عالية
ـ التحقق من صلاحية وصحة المعطيات على مستوى التواصل والاتصال
السينما المغربية تحاول أن تكون جزءا من العالم لتلامس قضايا كبرى كالتعددية والتسامح وحوار الحضارات بنسب متفاوتة في النجاح والانتشار أمام نسب من الأمية وتراجع الإقبال على الثقافة السينمائية؛ مما يتطلب رصدا للجهود لخلق أفق تشاركي يجد فيه المغاربة ذواتهم ويقبلون على السينما من منطلق تثقيفي وليس ترفيهي محض.
لذا، إن المتأمل للوضع الراهن للمشهد السينمائي قد يلاحظ بعض النقط أهمها:
إبداعيا
ـ غالبا ما يتم التركيز على ما هو مادي وذو علاقة بالبنية التحتية على حساب ما هو إبداعي وفكري
ـ التطاول على تخصصات الكتابة السينمائية
ـ هيمنة الطابع المسرحي والتلفزيوني على ما هو سينمائي
ـ عدم تحفيز المخرجين للنقد والمتابعة السينمائية العارفة بخلق أعمال تشكل تحولات نوعية في تاريخ السينما
ـ هيمنة المعالجات النصية والموضوعاتية على حساب الثراء الجمالي والتقني
ـ عدم التمكن من اللغة السينمائية في أبسط ملامحها ألا هي عرض قصة تنبني على خط درامي وتعالج قضية ما بطريقة مشوقة لدى البعض.
ـ وهم بعض المخرجين بسهولة كتابة السيناريو واللعب على دغدغة المشاعر
ـ فقر التعامل السينمائي مع الموروث الثقافي والأدبي المغربي/ العربي
ـ وجود نوع من النقد المهادن الذي يروج لبعض الأعمال من منظور تجاري وليس علمي وثقافي مقابل نقد انطباعي يتسم عموما بالشعبوية
ـ دعم المبادرات الشابة بتنظيم الورشات مع المهنيين والمسابقات والتكوين المستمر
ـ الرغبة في جعل السينما كمطية للغنى المادي مع تهميش عامل العشق للسينما
ـ الاستمرار في تكرار بعض المقولات الجاهزة والتبريرات النمطية من قبيل غياب كتاب السيناريو
ـ وهم بعض المخرجين أن جمهور السبعينات مثلا هو نفس جمهور الألفية الثانية
ـ عدم قدرة العديد من المخرجين على الاستفادة من مناخ الحريات لطرح رؤى سياسية تتسم بنوع من الجمالية والنبوغ الفني.
ـ الخروج من استهلاك القضايا الاجتماعية لعوالم مختلفة تتسم بنوع من المغايرة في الرؤية والتجديد في المعالجات السينمائية.
ـ تجنب المحاباة في تقييم الأفلام واختيار أناس متمكنين من الخطاب السينمائي بمتابعاتهم وإسهاماتهم الفكرية والنقدية في مجال السينما.
إنتاجيا
ـ غالبا ما يتم تهميش سلطة المشاهد كطرف لكونه يأتي في نهاية الدورة الإنتاجية
ـ عدم وجود تنسيق منتظم وحقيقي بين قطاعات الدولة وزارة الاتصال ووزارة الثقافة والتربية مثلا
ـ الرهان على الدولة كداعم وحيد في إنتاج السينما
ـ وجود خلل في معايير ومقاييس دعم أفلام لا ترقى إلى المستوى
ـ رغبة المخرجين في قول أشياء كثيرة من خلال الفيلم
ـ الرغبة في الحصول على الدعم من دون التحلي بروح المسؤولية الأخلاقية في التعامل مع الطاقم الفني والتقني وحتى جمهور المشاهدين
ـ ضرورة الرهان على النوعية وعلى تثوير المشهد السينمائي نظرا لوجود إمكانات تقنية وإمكانيات مادية
ـ سيادة نوع من السكوت والتواطؤ في فضح الخروقات التنظيمية المتعلقة بحقوق التقنيين وتهميشهم مقابل العاملين الأجانب
ـ تسهيل المساطير الإدارية وتجنب الممارسات البيروقراطية في وجه الشباب
ـ خلق قنوات للتواصل بين المبدعين/المؤلفين والمخرجين / المنتجين
إعلاميا
ـ هيمنة هاجس الخوف من القرصنة وإغلاق العديد من صالات العرض
ـ نفور الجمهور المغربي من السينما المغربية لتواجد العديد من المرجعيات والقنوات وإمكانيات المقارنة
ـ هيمنة هاجس المهرجانات والرغبة في إثارة الغرب وإرضاء مخيلته لدى بعض المخرجين
ـ تقصير الجانب الإعلامي في الترويج لثقافة السينما وأنشطتها وسقوط بعض المنابر والقنوات الإعلامية في حروب هامشية تنم عن تضخم ومرض مسؤولين يحاسبون السينما ويعاقبون عشاقها لوجود خلافات نموذج القناة الثانية في عهد المدير السابق.