جريدة بريس ميديا الأوروعربية للصحافة PRESS Medias Euro Arabe
المدير برهون حسن 00212661078323

مساءلة العلوم الإنسانية في العصر الكوروني وما بعده

ذ.الحسن الإفراني

يطلق مصطلح العلوم الإنسانية على مجموع الدراسات والأبحاث والعلوم التي اتخذت من الإنسان موضوعا خاصا للدراسة بمختلف أبعاده ومستوياته النفسية والاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والتربوية…ويذهب أكثر الباحثين إلى أن ميلاد هذه العلوم لم يتحقق إلا في القرن التاسع عشر بعد تمكنها من الانفصال عن الفلسفة، بعدما سعت جاهدة للتدقيق في تحديد موضوعها ومنهجها ومفاهيمها…مما يعني بأن الدراسات التي سادت قبل هذا الزمن عن الإنسان، إنما كان يطغى عليها الطابع التأملي والفلسفي. ويبقى الطموح الكبير الذي يصبو إليه المحسوبون على هذه العلوم المساهمة إلى جانب العلوم التجريبية لفهم الإنسان وما يحمله وما يجري داخله انطلاقا من سلوكه وتصرفاته التي تصدر عنه (علم النفس)، وما حدث له في الماضي (علم التاريخ)، وباعتباره كائنا ينتج (علم الاقتصاد)، ويتكلم (علوم اللغة)، ويعيش داخل جماعة يتفاعل معها (علم الاجتماع)، ويتأطر ضمن سلطة مؤسساتية تسمى الدولة (العلوم السياسية)، ويتربى داخل مؤسساتها التعليمية (علوم التربية) ويكتسب ثقافتها (الأنثروبولوجيا وأخواتها)…وبما أن المناسبة شرط – كما يقول الفقهاء – فإن السؤال المطروح اليوم على العلوم الإنسانية هو: ماذا قدمت – وماذا تقدم – العلوم الإنسانية لخدمة الإنسان في ظل جائحة كورونا وفي المغرب تحديدا؟ وما هي المواضيع التي يتعين – ينتظر – أن تشتغل عليها العلوم الإنسانية/الاجتماعية فيما بعد العصر الكوروني كأولى أولوياتها؟ وكيف يمكن النهوض بالعلوم الإنسانية لتقوم بأدوارها الطلائعية؟.

اعتاد علماء الإنسان الحديث عما يفعلونه انطلاقا مما يمارسه علماء الطبيعة، فاعتبرت الأخيرة بمثابة النموذج الأمثل والأرفع، نظرا لتمكنها من فهم وتفسير وتكميم بل وبالتنبؤ بما سيحدث في العالم المادي المحيط بالإنسان، وكذا بجسده.

ففي الوقت الذي تقدم فيه علوم الأحياء بشتى فروعها، والكيمياء بمختلف تخصصاتها، والفيزياء بكل مباحثها، اقتراحات وتوجيهات مباشرة للأطباء للحد من انتشار الوباء والقضاء عليه، إذ نجد بموجب ذلك المختبرات تسابق الزمن لإنتاج أدوية أو تطوير أخرى لمعالجة الوباء، كما تطور أخرى أجهزة التنفس، وأخرى الكمامات وبدلات الأطباء…ومحاولة تقدير زمن القضاء على الوباء أو على أقل تقدير زمن تقهقره…ليس هذا في أوروبا فحسب حيث توفرت للمختبرات كل الشروط الضرورية للتجريب والمناولة ( لوجستيكة وبشرية وتحفيزية، وقبل هذا وذاك إرادة وإدارة سياسية…)، بل كذلك في مجموعة من الدول العربية، إذ تفتقت عبقرية باحثين كثر من كليات علوم ومعاهد تقنية كثيرة ( ففي المغرب مثلا نجد جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية ببنجرير، وجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، والمدرسة المغربية لعلوم المهندس…)، لتقدم إرشاداتها واختراعاتها لوقف زحف هذا الوباء الفتاك، لمساعدة المرضى على اجتياز الابتلاء الذي تعرضوا له، ولحماية الواقفين في الخط الأمامي مما قد يلحق بهم من عدوى وهم يؤدون مهامهم النبيلة.

إذا كانت هذه الجهود كلها مبذولة من لدن المختبرات العلمية التجريبية، فإننا نجد بأن العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع (علم اجتماع الجسد: الصحة والمرض والشيخوخة )، وعلم الاقتصاد (علم اقتصاد الصحة )، والأنثروبولوجيا (أنثروبولوجيا الصحة )…تقف مشدوهة أمام ما يحدث، ومكتوفة الأيدي فيما يقع،

مما يطرح علامة استفهام كبيرة حول عمل المختبرات التي تشتغل في كليات الآداب والعلوم الإنسانية في جامعات الدول العربية إلى حدود لحظة كتابة هذه المقالة، أم أن العلوم الإنسانية تظهر في مساء اليوم الذي تظهر فيه العلوم التجريبية (التعبير مستقى من هيغل)؟ ألا يعد زمن إنجاز بحوث ميدانية في العلوم الإنسانية/ الاجتماعية مطلبا واقعيا مقارنة مع نظيره في العلوم التجريبية، ومن ثمة نكتفي في هذه العجالات فحسب بطرح الأسئلة والفرضيات وتحديد مواضيع البحث؟.

إن اشتغال كل جماعة علمية – بتعبير توماس كون – أو كتلة حرجة أقصد المشتغلين في العلوم الإنسانية من ناحية والمشتغلين في العلوم التجريبية من ناحية أخرى، كل في مختبره، دون انفتاح هؤلاء على أولئك، يسائلنا عن ثقة الدولة والجماعات والأفراد وعن جدوى وضرورة العلوم الإنسانية. فإذا ما حاولنا مقارنة أنفسنا بدولة كفرنسا على سبيل المثال، فإننا نجد المجلس العلمي ( le conseil scientifique) الذي يوجه قرارات الدولة الفرنسية فيما يتعلق بجائحة كورونا، والذي يضم في عضويته إضافة إلى أطباء واختصاصيين في الأمراض المعدية والنماذج الرياضية، هناك باحثين أيضا في العلوم الإنسانية كالسوسيولوجي ( daniel benamouzig) والأنثروبولوجي- duault ) laetitia atlani).

إن المفارقة التي يمكننا تسجيلها هنا بخصوص السياسة الخارجية لبلد عربي كالمغرب مثلا – مقارنة مع فرنسا مثلا – هي أننا منفتحون في مجال السياحة والتجارة والخدمات والصناعة… لكن هناك انكماش وانغلاق في مجال الثقافة والبحث العلمي، ولا يمكن تفسير هذا – في نظرنا – إلا أننا مازلنا نعتبر العلوم الإنسانية مجرد ترف وكماليات، أو أننا ما برحنا نعتبر بأن الوباء لا يمكن مقاربته إلا طبيا وكفى، أو أننا نعاني من مرض التوحد السيكولوجي. فمن المسؤول إذن: الباحثون في العلوم الإنسانية القابعين في بروجهم العاجية أم سياسة الدولة التي لا تعير بالا لتلك العلوم؟.

كثيرا ما نجد أنصار العلوم الإنسانية يتحدثون عن علومهم باعتبارها علوما تربي على النقد والسؤال أساسا، وتكره التأحيد والدوغما والاستبداه (من البداهة)… وتستمد قوتها من النسبية واللايقين…كما يزكي واقع الذين رفعوا من شأنها بأنها علوما للسيادة، توجه سياسات وقرارات وعقليات ونفسيات البلاد والعباد، ليس فقط في داخل الدولة بل لدول أخرى كذلك ( الموجهون للسياسة الخارجية الأمريكية مشتغلون في العلوم الإنسانية كالفلسفة والعلوم السياسية: نموذج صامويل هنتنجتون الذي عمل مخططا أمنيا في إدارة الرئيس جيمي كارتر، وغيره كثير)، وهو ما تفتقر إليه العلوم التجريبية حسب رأيهم، التي تنتج عقولا تؤمن بالتعميم والإطلاقية واليقين والنهائي…وتعد مجرد علوم خدماتية، تقدم للبشرية الخدمة المطلوبة لتجعلك أكثر راحة واستقرارا في جسدك واتصالاتك وحلك وترحالك…

لقد آن الأوان لأن يجلس الطرفان جنبا إلى جنب، إن نحن أرنا للمعرفة والحقيقة أن يكون لها معنى، وأن تسير على قدمي السيادة والخدمة بالفعل. فنحن في حاجة إلى تكامل العلوم، أي إلى ما يسميه إدغار موران بفهم الفكر باعتباره “فكر التعقيد”، بما هو فكر يدعو إلى ضرورة الانتباه إلى التعقيدات والتشابكات والأفعال التراجعية البينية والصدف التي تنسج ظاهرة المعرفة…إنه يتطلب العودة إلى فكر معقد يستطيع معالجة التعالق وتعدد الأبعاد والمفارقة. (المنهج، إدغار موران، ص 273)، الذي يتوجب أن يحل محل فكر التبسيط، وذلك لتحقيق كرامة الإنسان وحماية الطبيعة مما يتهددها ويتربص بها من مخاطر مقولة ” السيطرة على الطبيعة والصراع معها ” مع روني ديكارت عوض الانسجام معها كما دعا إلى ذلك برتراند راسل، وكذا تسخيرها وذلك باستخدام مظاهر الكون في تطبيقات عملية نافعة للإنسان في مجالات حياته المختلفة ( فلسفة التربية الإسلامية، ماجد عرسان الكيلاني، ص 145)… سواء أكان ذلك في أوقات الشدة والمرض أو في أوقات الرخاء والعافية، انسجاما مع مقولة ” الحياة بأسرها حل لمشاكل ” ( عنوان كتاب لكارل بوبر)؛ خصوصا وأن الطب وحده ليس كفيلا للحد من الأوبئة، إذ علينا أن نسأل عن الأعراض قبل السؤال عن الأمراض، وإلا نكون قد وضعنا السلم على الجدار الخطأ، فحتى الثقافة والمعيشة لها دور في الحد من تلك الأوبئة أو انتشارها، وقد سعى علماء الاجتماع وعلماء الأوبئة، الذين يدرسون نسب التوزيع والتكرار للأوبئة والأمراض بين السكان، إلى تفسير الصلة بين الصحة من جهة، وعدد من المتغيرات من جهة أخرى مثل الطبقة والجنس والعرق، والعمر والطبيعة الجغرافية. (علم الاجتماع، أنتوني غدنز، ص 226)، ليعتبر الطب في الأخير منتجا لمقولتي الصحة والمرض باعتبارهما مقولتين اجتماعيتين (سوسيولوجيا الصحة، محمد عبابو، ص 27).

نرى بأن العلوم الإنسانية مطالبة بالبحث في هذه اللحظة بالذات في القضايا الآتية حسب حقولها المختلفة:

الأنثروبولوجيا: تمثلات الوباء، تأثير الوباء على الحياة الاجتماعية، أنماط التفكير في التعامل مع الوباء، تفسير حدوث الأوبئة…

علم الاقتصاد: تأثير الوباء على مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني، العلاقة الاقتصادية مع الصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية…

علم الاجتماع: تأثير مسافة التباعد، الإشاعة، التضامن الاجتماعي، ديناميات الأسر، الجمعيات الرقمية، مفهوم الدولة وعلاقته بالمجتمع والمجتمع المدني، علاقة المجالين الخاص بالعام في ظل التواصل بين المجموعات الافتراضية ( مساءلة الهابرماسيين)، السعي نحو دمقرطة الرأسمال الرمزي في ظل الثورة الرقمية ( مساءلة البورديويين)…

علم النفس: العزلة، التعاطف، التوتر، التوازن النفسي…

علوم التربية: التحول الرقمي في مجال التربية والتكوين، التعلم الذاتي…

الإبستمولوجيا: طبيعة العقلانية العلمية (اليقين واللايقين…)، معيارعلمية النظريات العلمية، طبيعة التقدم العلمي (التراكم/القطيعة)…

الفلسفة: العولمة، الشغل، الألم، الغير، العدالة، الحرية، التقنية، الدولة، المعنى، التعايش، النقد، المابعديات…

العلوم السياسية: مستقبل القطبية الواحدة، حال ومستقبل التنين، الاتحاد الأوروبي…

علم التاريخ: مقارنة وباء كورونا مع الأوبئة التي عرفتها البشرية، من حيث الأسباب والمظاهر والنتائج…

علم المستقبليات: التحولات الكبرى لما بعد العصر الكوروني…

إذا كانت هذه هي بعض المواضيع الراهنة التي تطرح نفسها على الباحثين في العلوم الإنسانية، فإن الأمر يتطلب شكلا فعالا لهذا الاشتغال، فبأي شكل إذن؟

نقترح بهذا الخصوص إيلاء الأهمية القصوى للبحث العلمي، وفق الآتي:

يتعين بدهيا التمييز بين الدروس/المحاضرات من جهة، والبحث العلمي من جهة ثانية؛
ضرورة فتح حوار مفتوح بين عموم الباحثين، بعيدا عن الأنا الوحدية التي لاتنتج إلا معارف ناقصة أومشبوهة أو مشوهة…؛
العمل على العناية بالمجلات/الدوريات لنشر الأعمال المنجزة، وجعلها رهن إشارة المهتمين لخلق نقاش عمومي بخصوص المقالات المنشورة؛
إعادة النظر في مهمة الناشر، الذي يعمل على تجويد العمل ومراجعته وتنقيحه، كما يحدث في الغرب، وليس فقط العمل على نشره، كما هو معمول به عندنا؛
الاهتمام باللغات الأجنبية لمواكبة ما ينشر في الساحة الثقافية والفكرية العالمية؛
أهمية الترجمة في الاطلاع على منتوج الغير؛
الانفتاح على باحثين من خارج المغرب ( تبادل الزيارات، تبادل الأطاريح الجادة…)؛
الحرص على الاستفادة من المنح التي تخصصها مجموعة من الجامعات خارج البلاد للطلبة المغاربة؛
إغناء الخزانات الجامعية والبلدية بالإصدارات؛
ضرورة الالتفات إلى العقول للحد من نزيف هجرة الأدمغة؛
التحول من المختبر المهنة إلى المختبر المحراب والنضال؛
الإرادة السياسية في الرقي بالثقافة والتعليم والبحث العلمي…
إن منزلة العلوم الإنسانية مازالت في على غير ما يرام، فلا أهلها أبرزوا قيمتها، بعدم مواكبة ما يجري في محيطهم، والتعفف عن الانخراط فيه، ولا الدولة تزن لها وزنا، لكونها تقر – درت أم لم تدر – بأن المرحلة ينبغي أن يتحدث فيها المختبر بمعداته، والحساب الرياضي بمعادلاته، ليمنحنا مكتشفات مادية ملموسة، تؤدي دورا مباشرا في علاقتها بجسد الإنسان/ المريض. وقد آن الأوان لأن تنفصل العلوم عندنا مع البراديغم الغربي، الذي يتحرك وفق ثنائية: الإنسان/الطبيعة؛ الطبيعة/الإنسان، بعيدا عن التصورين الدرويني والنازي اللذين سعيا إلى تفكيك الإنسان وتسليعه وحوسلته ( ينظر: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان: عبد الوهاب المسيري)، حتى نعيد للإنسان إنسانيته، وأن نجيب بجرأة عن الأسئلة الآتية: بم ينبغي الاهتمام؟ هل بالعلوم التجريبية أم العلوم الإنسانية أم يتعين الاعتناء بهما جنبا إلى جنب؟ ولمن الأولوية اليوم؟ هل للإنسان أم للاقتصاد؟ وهل من المعقول الحديث عن ثورة ستحدث فيما بعد العصر الكوروني، ومن ثمة نتحدث بموجب التحقيب الجديد بما قبل وما بعد كورونا؟.