جريدة بريس ميديا الأوروعربية للصحافة PRESS Medias Euro Arabe
المدير برهون حسن 00212661078323

على مشارف سن التسعين .. “أنطونيو غَالاَ” يتنفس هواء الأندلس

كاتب ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.

يقول الكاتب والناقد الإسباني “خوسّيه إنفانتي”: “إنّ نوعية الأدب الملتزم الذي يكتبه الرّوائي والشاعر الإسباني الأندلسي المعروف “أنطونيو غالا” يجعله ينأى عن أيّ تكريم أو عن أي جائزة أدبية مرموقة رسمية في إسبانيا منذ سنوات عديدة خلت، باستثناء جائزة “بلانيتا” التي حصل عليها بواسطة روايته (المخطوط القرمزي) التي تدور حول آخر ملوك بني نصر في غرناطة أبي عبد الله الصغير”.

ومعروف أنّ اختيار اللون القرمزي عنواناً لهذه الرّواية يرمز به “غالا” إلى الوثائق، والورق المُهرق، والقراطيس التي كانت تُستعمل في بلاطات قصور بني نصر بمدينة غرناطة.

وعن هذا الصّنف من المخطوطات الغميسة كتب الملك أبو عبد الله الصغير مذكراته ويومياته، ومن ثمّ كان هذا العنوان الذي أراد غالا به أن يحتفظ أو أن يبرز في روايته اسمَه العربي القديم بعد اطّلاعه على هذه المخطوطات، والمراجع، والمظانّ الأخرى التي لها صلة بالحقبة التاريخية التي تدور فيها أحداث هذه الرواية، إثر سقوط آخر معاقل الإسلام في الأندلس وهي غرناطة عام 1492 في يد الإسبان .

ضريبة الالتزام على مشارف التسعين !

يشير الناقد “خوسّيه إنفانتي” إلى أنّ الالتزام في الأدب على طريقة كبار الكتّاب الرّوس قد تكون ضريبته باهظة الثمن، فالكاتب أنطونيو غالا الذي حصل على العديد من الجوائز التكريمية، وعلى أوسمة فخرية وشرفية داخل بلاده إسبانيا وخارجها، يبيّن لنا أنّ هناك تناقضاً واضحاً في هذا القبيل، ففي وقت يحظى غالا بشهرة واسعة بين القراء في مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية نراهم يحرمونه من أيّ جوائز كبرى أدبية رسمية في بلده إسبانيا، مصداقاً للقول المشهور لا كرامة لنبيّ بين قومه.. فقد انحاز غالا سياسياً لليسار خلال الانتقال الديمقراطي في إسبانيا، وطالب بالحُكم الذاتي لإقليم الأندلس، وهاجم إسرائيل بشدّة، واتّهِم بمعاداته للسّامية، وكان رئيساً لجمعية الصداقة الإسبانية-العربية. وما فتئ الناقد الإسباني خوسّيه إنفانتي إلى جانب كوكبة واسعة من الكتاب، والنقّاد، والفنّانين الإسبان الآخرين يطالبون بدون هوادة منح أنطونيو غالا جائزة أميرة أستورياس أو سيرفانتيس أو الجائزة الوطنية للآداب – وهي أهمّ الجوائز الأدبية المرموقة التي تمنح في إسبانيا – لأنه جدير، وأهل، وقمين بها..بل إنه في نظر هؤلاء الكتّاب أكثر استحقاقاً من الكثيرين ممّن حصلوا على هذه الجوائز الأدبية الكبرى قبله.

كان “أنطونيو غالا” بالفعل ومازال ضمن الكتّاب الإسبان المُرشّحين للحصول على هذه الجوائز المهمّة بعد أن أصبح على مشارف التسعين سنة من عمره، (من مواليد 1930)، ومع ذلك فهو لم يحظ بهذا التكريم إلى اليوم؛ علماً أنّ هذا الكاتب معروفة عنه شجاعته الأدبية في ما يتعلق بتاريخ الأندلس، إذ ما انفكّ يعيد توضيح بعض الحقائق التاريخية عن شبه الجزيرة الإيبيرية حول مدى تأثير الثقافة العربية ولغتها في الحضارة والنفسية الإسبانية على وجه الخصوص، وقال في العديد من المناسبات، ومازال يقول بصوتٍ جهوري وصريح: إنه بدون معرفة الثقافة العربية والأمازيغية الإسلامية لا يمكن فهم إسبانيا.

عاشق الأندلس

كثيراً ما يتعرّض “أنطونيو غالا” في أحاديثه ومداخلاته، بل وفي كتبه ومؤلفاته، شعراً ونثراً، لهذه المواضيع التي تروقه وبشكل خاص الوجود العربي والإسلامي في إسبانيا، والإشعاع الذي عرفته الأندلس على أيامه.. إنّه يقول على سبيل المثال لا الحصر: “إذا سئلت ما هي الأندلس..؟ قلت إنها عصير غازي يساعد على هضم كلّ ما يُعطىَ لها حتى لو كان حجراً، فقد مرّت من هنا مختلف الثقافات بكل معارفها وعلومها، إلاّ أنّ الثقافة العربية والإسلامية في إسبانيا كانت من أغنى الثقافات الإنسانية ثراءً، وتنوّعاً، وتألقاً وإشعاعاً التي عرفتها شبه الجزيرة الإيبيرية في الأندلس، وبالتالي هي بحقّ منارة علم، وحضارة، وعرفان قلّ نظيرها على امتداد تاريخها الطويل؛ فبعد الملوك الكاثوليك جاءت محاكم التفتيش الفظيعة في أعقاب ما سُمّيت: “حروب الاسترداد” التي كانت في الواقع حروباً للاستعباد والاستبداد، والتي تركت جروحاً عميقة غائرة في الجسم الإسباني، هذه الجروح لم تلتئم بعدُ حتى اليوم، فإسبانيا ظلت هي ذَنَب أوروبا غير المسلوخ، هي أوربا كذلك ولكن بطريقة أخرى، فهناك جبال البرانس التي توصد الأبواب بيننا وبين العالم الأوروبي، وهناك البحر الأبيض المتوسّط من الأسفل، فإسبانيا وكأنها تشكل قدَراً جغرافياً، وهي ممرّ أوربّا نحو إفريقيا. ولإسبانيا اليوم سفارتان كبيرتان ينبغي لها أن توليهما أهمية خاصّة، وهما العالم العربي، والعالم الأمريكي، فقد أورثها التاريخ هذه المهمّة الصّعبة، وهي (أيّ إسبانيا) إذا لم تضطلع بهذا الدّور فإنما تخون نفسَها وتخون شعبَها والتاريخ”.

ويشير غالا إلى أن اللغة بالنسبة له أساسيّة، بل إنها هوَسه وقدَره، وهو يعمل محاطاً بالعديد من القواميس؛ فاللغة الإسبانية في نظره لغتان أو فرعان اثنان، فرع ينحدر من اللغة اللاتينية، وفرع آخر ينحدر من اللغة العربية، “إلى درجة تبعث القشعريرة في الجسم”.

أجمل المعاني وأروع الأشياء

ويقول غالا إنه خلال قراءاته المتنوّعة العديدة، أو عند كتابته لأيّ مؤلَّف جديد حول الحضارة العربية، فإنه يكتشف كل يوم حقائقَ مثيرة تدعو للتفكير، والتأمّل، والإعجاب حقاً؛ “فأجمل المعاني وأروع الأشياء في إسبانيا جاءت من الحضارة العربية، بل إنّ أجمل المهن، وأغربها، وأدقها، وأروعها، وكذلك ميادين تنظيم الإدارة، والجيوش، والفلاحة، والملاحة، والطبّ، والاقتصاد، والعمارة، والبستنة، والريّ، وتصنيف الألوان، والأحجار الكريمة، والصناعات التقليدية، معدنية كانت أم فخارية، أم خشبية، وفضلاً عن المهن المتواضعة، كلّ هذه الأشياء التي نفخر بها نحن اليوم في إسبانيا، تأتي وتنحدر من اللغة العربية وحضارتها، وهذا لم يحدث من باب الصّدفة أو الاعتباط، فالعرب والأمازيغ أقاموا في هذه الديار زهاء ثمانية قرون، وظللنا نحن نحاربهم ثمانية قرون لإخراجهم، وطردهم من شبه الجزيرة الإيبيرية”، وزاد متسائلا: “كيف يمكن للمرء أن يحارب نفسَه؟.. ذلك أن الثقافة العربية كانت قد تغلغلت في روح كلّ إسباني، فبدون هذه الثقافة لا يمكن فهم إسبانيا، ولا كل ما هو إسباني، بل لا يمكننا أن نفهم حتى اللغة الاسبانية ذاتها”، ويضيف: “إنّ هذه الحقيقة تصدم البعض، إلاّ أنّهم إذا أعملوا النظر، وتأمّلوا مليّاً في هذا الشأن فلا بدّ أنهم سيقبلون بهذه الحقيقة بدون ريب، فالبراهين قائمة، والحجج دامغة في هذا القبيل”.

الأندلس هي الهواء الذي أتنفّسه

وضمن استجوابٍ مُوفٍ، ومُثرٍ، وعميق أجراه مشكوراً الباحث الزميل الدكتور خالد سالم مع أنطونيو غالا، حيث سأله عن بداية اهتمامه بالتراث العربي الأندلسي، قال: “أعتقد أنّ طفلاً يولد في مدينة أبيلا (شمالي إسبانيا) ليس مثل طفل آخر يولد في قرطبة، فهو ليس أفضل ولا أسوأ، بل إنه بكل بساطة مختلف. والطفل الذي أدافع عنه طفل يشمّ هواءً معيّناً، ويرى أثاراً خاصّة، ويعيش في وسط مختلف، فأنا عندما يسألونني عن أثر الأندلس في شخصيتي لا أملك سوى الضّحك، لأن الأندلس تتملّكني، إنّها الهواء الذي تنفسّتُ، والحليب الذي رضعت في الصّغر، فهي عميقة وقوية وصريحة في أعمالي وفي شخصيتي، إنها كلّ أعمالي، فروايتي التي تحمل عنوان “خلف الحديقة” تجري أحداثها في إشبيلية، وإشبيلية الحالية هي أكثر المدن أندلسيةً أو احتفاظاً بروحها الأندلسية، إنه الاهتمام بأجدادي، بأصولي. وإن كان التطوّر قد أساء إلى الأندلس، فالتقدّم يعني التخلف هناك. كانت الأندلس عظيمة، ولكي تصبح عظيمة من جديد عليها أن تعود كما كانت عليه في الماضي. كانت حلماً تاريخياً. الطريق الذي كان يصل بين قرطبة ومدينة الزّهراء كان مرصوفاً بمسحوق الذهب والطيب والقرفة، حتى لا تطأ أرجل الذين كانوا يحملون الهودج الأرضَ في طريقهم إلى مدينة الزّهراء، وهو ما يحملني على الشّعور بالأسىَ عندما أرى طريقاً سيّاراً سريعاً يمرّ بقرطبة. فقرطبتي كانت أفضل بكثير ممّا هي عليه الآن. وإذا كان لي أن أتكلم عن الأثر التاريخي الذي خلف أعمق بصمة في حياتي فإنني سأختار بلا تردّد المسجد الكبير في قرطبة، ولو لم يكن هذا الأثر موجوداً فيها لتغيّرت حياتي كثيراً”.

وقال غالا في هذا الحوار الرّائع: “أشعر بأنني أنتمي إلى الثقافة العربية، وقد درستها بتأنٍّ ورويّةٍ لأكتشف أنها ثقافة مُدهشة. ومن منطلق هذا الإعجاب فإنني أشعر بأنّ اسم الأمويين محفور على جبهتي، وفي قلبي اسم العباسيين الإشبيليين، وفي يدي اسم بني نصر الغرناطيين. إنني أشعر بصلةٍ قويةٍ تجمعني بالأندلس، لهذا أردتُ أن يكون أوّل عملٍ روائي لي هو “المخطوط القرمزي”، وهي رواية تدور أحداثها في غرناطة العربية”.

الشّعر يتكيّف مع كل إناء يحتويه

وعن سؤال عن الشّعر وعن أقرب أجناس الأدب وأكثرها تأثيراً عليه، قال غالا في الحوار نفسه: “إنني أؤمن بنظرية لأفلاطون، وهي أن الإبداع عندي هو الشعر، أيّ إنه كلّ شيء.. إنه كأيّ سائلٍ يتكيّف مع شكل الإناء الذي يحتويه؛ وهكذا نجد أبيات القصيدة شعراً، وهناك شعر روائي يتمثل في المسرح، وشعر قصصي في القصّة، وشعر المقالة، وشعر الحياة، كيفية تأمل الحياة، الطريقة التي نرى بها مرورها وقدوم الموت، ففي حالة إدراك الناس للحقيقة، قد تكون القصيدة الشعرية من أكثر الفنون تأثيراً لأنها درب للمعرفة، فهي ليست شكلاً تعبيرياً كالمسرح، بل هي شكل معرفة ودراية، لهذا إن وصلت القراء تأثروا بها. بعد الشعر يأتي المسرح على أساس أنه مباشر، يصل بلا وسيط إلى قلب المتفرج، وتأثيره يختلف عن تأثير العمل الروائي حيث يتصل القارئ بالكاتب رغم المسافة التي تفصل بينهما عند القراءة. المسرح يتمتع بالظاهرة الجماعية ومشاركة الجمهور، وهو شأن القصيدة، إذ يفترض أنها تكتب لتنشد على الجمهور، وإن كانت هذه الخاصّية قد سرقها المسرح من القصيدة، بيد أن المسرح لا يغيّر، فوظيفته هي التنبيه، والإيقاظ.. إنه يشير إلى موطن الداء، ولا يضع الدواء”.

حضارة بهرت العالم

ويقول “غالا” ضمن استجوابٍ كان قد أدلى به لجريدة “لا خُورنادا” المكسيكية: “إن الذي حدث في إسبانيا ليس اكتشافاً أو غزواً مثلما هو عليه الشأن في أمريكا، فالذي حدث هنا كان تجليّاً ثقافيا واضحاً، إنه شيء يشبه الانبهار الذي يبعث على الإعجاب الذي يغشى المرء بعد كل معجزة، فقد وصل العرب والأمازيغ إلى إسبانيا وهم يحملون معهم ذلك العِطر الشرقي العبق الفوّاح الذي كانت الأندلس تعرفه من قبل عن طريق الفينيقيّين الذين قدِموا من لبنان، والإغريق الذين قدِموا من اليونان، وصل العرب بذلك العطر الشرقي والبيزنطي، ووجدوا في الأندلس ذلك العطر الروماني، حيث نتج في ما بعد أو تفتّق وانبثق عطر أو سحر جديد من جرّاء الاختلاط والتمازج، والتجانس، والتنوّع والتعدد الذي بهر العالم، المعروف في ذلك الأوان، فحقيقة التهجين والتوليد وتمازج الأجناس في إسبانيا هي حقيقة ماثلة، لا يمكن إنكارها. إنّ إسبانيا ابنة التوليد، إذ تمازجت على أرضها ثقافات الشرق والغرب، وبشكل خاص في حوض البحر المتوسط؛ فالعرب والأمازيغ لم يدخلوا شبه الجزيرة الإيبيرية بواسطة الحصان وحسب، بل دخلوها مستنيرين، مكتشفين، ناشرين لأضواء المعرفة، وشعاع العلم، والأدب، والشّعر، والحِكمة، والعرفان، والموسيقى والأنغام، وبهذا المعنى كان دخولهم إليها كشفاً أو اكتشافاً ثقافياً خالصاً”.

ويضيف “غالا”: “هنا يكمن الفرق بين الذي ينبغي لنا أن نحطّه نصبَ أعيننا للإجابة عن ذلك التساؤل الدائم: لماذا لم تلتئم القروح ولم تندمل الجروح بعد في أمريكا اللاتّينية حتى اليوم؟”، ويتعجّب من إسبانيا اليوم التي “تقف في وجه كلّ ما هو أجنبيّ وتنبذه وتصدّه عِلماً أنّ الشعب الاسباني تجري في عروقه مختلف الدّماء والسّلالات، والأجناس والأعراق؛ ومع ذلك مازالت إسبانيا تظهر بمظهر العنصرية وتدّعي أنها براء من أيّ دم أجنبي”.

دواعي اكتشاف العالم الجديد

يشير “غالا” بسخرية مبطّنة مرّة ولاذعة إلى أنّ “أيّ إسباني من مملكة قشتالة لم يكن في مقدوره أن يقوم بأيّ أعمال يدوية بارعة، كما لم يكن في إمكانه زراعة الأرض مترامية الأطراف أمامه بحنكة ومهارة، وهذا هو السّبب الذي أدّى أو أفضى إلى اكتشاف أمريكا، أو ما سمّي في ما بعد العالم الجديد؛ فجميع هؤلاء الذين لم يكونوا يحبّون القيام بأيّ عمل يدوي كان عليهم أن يذهبوا وينتشروا في الأرض مكتشفين”، وزاد: “كان الإسبان شعباً محارباً، فهم يتدرّبون منذ ثمانمائة سنة، وكانوا باستمرار ينتظرون ويتحيّنون الفرصة المواتية للانقضاض على الغنائم بعد هذه الحروب الطويلة الضروس، ومن هنا ذهبوا بحثاً عن أرض بِكر تعجّ بالغِنىَ، والثراء، والثروات، وكانت هذه الأرض هي أمريكا”.

ويعتب “غالا” على الإسبان “إذ اتّسموا في غالب الأحيان في بلدهم وفي البلدان التي “غزوها” بالعنف، والجبروت، والقهر، والغِلظة، ولم يعتبروا الشعوبَ الاسبانية شعوباً بالمعنىَ الصّحيح للكلمة، وقد نُزِعت عنهم كلّ صفةٍ للرّحمة والرّأفة والشّفقة، وهكذا أصبحوا في هذا الصّقع النائي من العالم أبعدَ ما يكونون عن رسالة السّيد المسيح”.

لا بدّ أنّ القارئ أمكنه بعد هذه العجالة استكناه أسباب ودواعي المُطالبين بترشيح، أو توشيح، أو منح الجوائز الأدبية الإسبانية المرموقة إيّاها عن كلّ استحقاق لـ”أنطونيو غالا” ولنظرائه من المبُدعين المُلتزمين..!.