المدير برهون حسن 00212661078323
بقلم ادريس كسيكس كاتب وباحث
إن ما يحدث حاليا في العالم بخصوص التراجيديا الفلسطينية عبر الاحتجاجات والتجمعات وأشكال التضامن والتعبير غير مسبوقة عبر فضاءات فعلية أو منصات افتراضية، ومؤخرا المعركة القانونية ضد الإبادة الإسرائيلية التي تقودها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وما ينتج عن كل ذلك من حاجة للعودة إلى التاريخ لفهم أصول المشكلة اليهودية والمعضلة الفلسطينية، وبروز خطاب نقدي ظل لعقود حبيس حلقات المناضلين وتفاعل جيل الشباب وأقليات عديدة، مع هذا الكم من المعارف والرؤى التي بقيت مستترة في الإعلام الغربي بفعل الدعاية والسرديات السائدة، كل هذا يدل على وجود مأزق حقيقي.
إنه مأزق التمثلات الذي يعيد النظر في الخطابات المنمطة، ويحذر بتحول في المخيال الجماعي، ويفتح الباب بالتالي أمام فعل سياسي مغاير. لماذا؟ لأنها أول مرة منذ عشرات المجازر الإسرائيلية التي تبرز فيها أساليب تعبيرية جديدة في الغرب تدعو إلى الحاجة إلى استئناف كل شيء من البدء في هذه القضية المستعصية منذ قرن كامل من الزمن. فلم يحدث من قبل أن كنا إزاء هذا العدد الهائل من التساؤلات والشكوك التي ظن حاكمو إسرائيل ومناصروهم في الغرب وغيره أنها طمست إلى الأبد. فأول القضايا الشائكة التي طفت على السطح تهم الفرق، المنسي أو المتناسي، بين الإرهاب والمقاومة. فإذا كان نعت إرهابى قد طغى على الخطاب في جو تدويل صراع طيف من الإسلاميين منذ ثلاثة عقود مع الغرب الإمبريالي فإن ذلك أنسى البعض كيف أن كل القوى الاستعمارية المتحكمة بالضرورة في مجمل قنوات التواصل تلجأ منذ أمد بعيد لنفس التوصيف لإقصاء حركات المقاومة كيفما كانت تلويناتها إقصاء رمزيا. والحال أنه ظهرت انطلاقا مما حدث منذ 7 أكتوبر الحاجة من جهة، لفكر يدافع عن أخلاقيات إنسانية دون ميز عرقي يناهض كل الإنزلاقات الإيديولوجية أكانت أصولية أو فاشية إسلاموية أو صهيونية قد تجيز تقتيل الأبرياء من باب الانتقام، ومن جهة أخرى، الحاجة للاعتراف بحق الشعوب المحتلة في المقاومة وإن بقسط من العنف الضروري والجائز أمام الحيف الدامي الذي يطالها.
أما المسألة الثانية التي أعادت فرض نفسها فهي ضرورة العودة إلى مفهوم “الإستعمار الإحلالي أو الإستيطاني”، الذي أصبح متجاوزا في منتصف القرن العشرين ومع ذلك تم بعثه في ذات الإبان من جديد للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وإحلال دولة إسرائيل مع ما صاحب ذلك من تطهير عرقي منذ نكبة 1948. فالتساؤل الذي أضحى يفرض نفسه هو كيف حصل كل ذلك والحركات التحررية جعلت في أقطار عديدة مسألة الإستعمار بذرائع التفوق العنصري أو العرقي مسألة غير مقبولة البتة. لذلك انتشرت بشكل لافت في التمثلات المتداولة صورة لإسرائيل المستوطنة كانعكاس سالب ومتجاوز لممارسات البيض في أمريكا الشمالية وجنوب إفريقيا وحتى مزاعم فرنسا الإحلالية في الجزائر منذ القرن التاسع عشر. وإذا كان هناك صدى قوي لهذا النقد المتجدد فلأن ما يقع في غزة من إبادة علنية يتزامن مع بروز فكرر يرنو إلى تفكيك البنى الاستعمارية في العديد من المحافل والأقطار، بل إن هذا الوعي تحسس طريقه إلى ثقافة العموم ولا أدل على ذلك من آخر أفلام مارتين سكورسيز المخصص لقصة إبادة الهنود سكان أمريكا الأصليين. كما أن التعابير والملصقات التي ينتجها الشباب في أمريكا وغيرها والمتداولة على نطاق واسع تشير إلى تنامي الإحساس بالحاجة إلى إعادة النظر في التراتبيات الثقافية والمعرفية والسياسية الموروثة من زمن عمودي وجائر رسخته بعض النخب المستلبة والتحالفات اللامتوازنة بين الشمال والجنوب.
إن المأزق يتجلى كذلك من كون الصهيونية كمشروع سياسي قد تكون في طريقها إلى الفشل. كيف ذلك؟ لسببين. الأول هو أن فكرة إحلال دولة يهودية تضمن لأصحابها مأمنا للعيش على أنقاض شعب تطهرت منه، وتفرض عليه عيشا ضنكا في قطاعات ضيقة ومعزولة، لم يعد أمرا مضمونا بل وأصبح موضع شك لدى فئة من الإسرائيليين أنفسهم. السبب الثاني هو أن فكرة إنشاء شعب يهودي أضحت مسألة مشكوك في فرضياتها، ليس فقط من طرف المؤرخين الإسرائيليين الجدد أمثال إلان بابي وشلومو ساند ولكن كذلك من تكتلات يهودية شابة متشبعة بفكر مابعد كوكونيالي ترى أن قصة الأصل الكنعاني الأوحد لليهود لا تعدو أن تكون خرافة إيديولوجية لا تستقيم أمام ما أثبتته الأبحاث الميدانية والموثقة من كون اليهود مجموعة من الشعوب من أصول مختلفة يظل تجميعها في حيز موحد مجرد ضرب من ضروب العبث. في نفس السياق، يظهر جليا أن المراهنة في العقدين الأخيرين على نسيان أو تناسي القضية الفلسطينية إما بإغراق بعض دول المنطقة في الصراعات، أو بتسريع وتيرة التطبيع مع بعضها الآخر، لم تؤت أكلها واتضح على نقيض ذلك ولأسباب روحية، لاهوتية، أخلاقية وتاريخية فإن قضية فلسطين ستبقى هي أم كل القضايا.
اليوم، يخلق كل ما سلف تصدعا غير مسبوق داخل الرأي العام الدولي عموما والغربي خصوصا في مجتمعات آمنت بالتعددية وها هي ترى مسؤوليها، إما للدفاع عن مصالح نيوليبرالية عقدية أو أمنية، في حاجة إلى تكميم الأفواه أو فرض سردية الضحية اليهودية على أنها الأقوى، وبالتالي الأجدر بالاهتمام، وهذا في جوهره لب المأزق الأخلاقي. فكأننا إزاء بنيان مهترئ ظل صامدا لأكثر منذ سبعين سنة وفجأة هوى. إذ، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء منظمة الأمم المتحدة حصل بالموازاة أمران متضاربان. من جهة، تم التلويح بخطاب ومبادئ وقواعد داعمة لحقوق الإنسان والتعددية الثقافية الحريات. ومن جهة أخرى، ساندت ودعمت نفس القوى، بوازع الإحساس بالذنب مما اقترفته النازية، قيام وتغول دولة إسرائيل فوق أرض مستلبة كاستمرار غير معلن للإيديولوجيا الإستعمارية وكتأكيد للدونية العرقية التي شيدت على أساسها المركزية الغربية.
إننا بكل تأكيد أمام منعطف غير متوقع وغير مسبوق. فكيف سيتم التعامل معه؟
سياسيا، يجد الجانبان الإسرائيلي والفلسطيني نفسهما أمام مأزق الخروج من النفق المظلم الذي أدت إليه بهما خيارات مٌغرقة في القومية بل حتى العشائرية دون مكان للآخر. فكيف بعد كل هذا العنف الجلوس إلى طاولة التفاوض بنحو أقل سذاجة من فترة اتفاقيات أوسلو لتصور دولتين مع تفكيك المستوطنات التي غزت الضفة الغربية حتى حولتها إلى شبه خرقة خَرَمَتها الثقوب من الداخل؟
هل بالإمكان الوصول لاتفاق أرقى بإعادة ابتكار دولة واحدة ديمقراطية وعادلة مع مجموع مكوناتها مع ما يعنيه من تخل عن أسطورة الدولة العرقية؟
وهل سيعاد طرح حق عودة فلسطينيي المهجر بشكل متساو مع حق عودة يهوديي الشتات؟ وبما أن هذا الطرح قد يبدو طوباويا في الظرف الحالي، لنتساءل على مستوى آخر، هل بالإمكان تطوير سردية مضادة على المدى البعيد تٌرسخ بشكل أقوى الإحساس الآني باللاتوزن من فرط الكيل بمكيالين؟
الأكيد، هو أن التفكير مجددا في السلام بعد كل هذا الدمار المادي والروحي يستوجب ميزان قوى جديد على المستويين المادي والرمزي. لكن هذا الأمر لن يتأتى دون مقاومة من نوع آخر ذات طبيعة معرفية، ثقافية وفكرية تعيد ترتيب الأولويات، تعيد قراءة الموروث، تفكك التمثلات وتساهم في بناء فكر كوني بديل وأفقي انطلاقا من الجنوب ومن الهامش، ومن ثمة تخلق ديناميات سياسية مغايرة تزكي هذا المنحى. هذا يعني ألا تظل المسألة الفلسطينية حكرا على حاملي خطابات هوياتية باسم الأمة الإسلامية. كما يعني التعامل معها كمسألة كونية تهم الأقليات وجماعات الفكر والعمل من كل الأطياف ليس فقط كحالة معزولة بل كحالة دالة عن براديغم لإعادة التفكير في مسألة العدالة الإنسانية.