المدير برهون حسن 00212661078323
يقول ايلان بابي عن دواعي تأليفه لهذا الكتاب: “إنها القصة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكانها الأصليين، وهي جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها. إنّ استردادها من النسيان واجب علينا، ليس فقط من أجل كتابة تاريخ صحيح كان يجب أن يُكتب منذ فترة طويلة، أو بدافع من واجب مهني؛ إنّ ذلك، كما أراه، قرار أخلاقي، وبالذات الخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها إذا أردنا أن نعطي المصالحة فرصة، وأن نتيح للسلام أن يحلّ ويتجذّر في فلسطين وإسرائيل”.
تضمن الكتاب العديد من الخرائط والصور والشهادات الحية، وقسمه المؤلف إلى12 فصلا، حيث تتبع في هده الفصول كيف بدأت وتطورت عملية التطهير التي تعرض لها الشعب الفلسطيني بداية من اواخر 1947 وبداية 1948 تزامنا مع صدور قرار التقسيم من الأمم المتحدة وانسحاب بريطانيا من فلسطين.
في الفصول الأولى للكتاب، تتبع بابي الوضع في الأرض مند بداية القرن العشرين إلى الثورة التي اندلعت اثر مقتل عز الدين القسام سنة 1936 ضد الاستعمار البريطاني، الثورة التي قمعتها سلطات الاستعمار بالحديد والنار، حينها كانت مجموعات صهيونية مسلحة تتابع الوضع عن كثب، وبعضها شارك القوات البريطانية في قتل الثوار الفلسطينيين.
بعد اخماد ثورة عز الدين القسام، بدأت المجموعات الصهيونية في الترتيب لمرحلة ما بعد انسحاب القوات البريطانية بالتنسيق معها، بحيث بمجرد ما ينتهي الانتداب البريطاني ستحل محله العصابات الصهيوتية، وذلك ما كان.
ويشير بابي الى أنه يوم 10 مارس 1948 عُقد اجتماع هام في “البيت الاحمر” بتل أبيب، اجتماع ترأسه بن غوريون و10 من اقرب مستشاريه، وخرج الاجتماع بإصدار الأوامر إلى المليشيات الصهيونية للشروع في:” إثارة الرعب، وقصف القرى والمراكز السكنية، وحرق المنازل، وهدم البيوت، وزرع الألغام في الأنقاض لمنع المطرودين من العودة إلى منازلهم.” وقد شُرع في تنفيذ الخطة يوم 1 ابريل، واستغرق تنفيذها ستة أشهر. ومع اكتمال التنفيذ كان نحو 800 ألف فلسطيني قد أُرغموا على الهجرة إلى الدول المجاورة، ودمرت 531 قرية، وأخلي أحد عشر حياً مدنياً من سكانه. وهذه الخطة، بحسب ما يصفها إيلان بـابـي، تعتبر، من وجهة نظر القانون الدولي، “جريمة ضد الإنسانية”
يروي بابي في كتابه بعض مشاهدَ الرعب التي زرعتها الميليشيات الصهيونية من الهاغاناه والإرغون وغيرها، يسرد مثال مجزرة قرية الطنطورة التي هي احد أكبر القرى الساحلية الفلسطينية، كان يقطنها حوالي 1500 نسمة يعتمدون في معيشتهم على الزراعة وصيد الأسماك. في 22 ماي عام 1948 هُوجمت القرية ليلاً، وقد جاء الهجوم من الجهات الأربع، فأُجبر السكان الأسرى تحت تهديد السلاح على التجمع على الشاطئ، ثم فَصلت القوات الصهيونية الرجال عن النساء والأطفال. فطردت الأطفال والنساء إلى قرية الفريديس المجاورة. أما الرجال فتمّ اعدامهم بالرصاص. واستنادًا إلى رواية أحد الناجين فإنّه تمّ قتل 110 رجلا بدم بارد، ناهيك عن الإهانات والضرب المبرح قبل الإعدام. ثم أرغم الرجال الذين لم يعدموا على حفر قبور جماعية لدفن رفاقهم.
كما يذكر قصة مجزر قرية دير ياسين، التي اختار أهلها عقد اتفاق عدم اعتداء مع مليشيات الهاغاناه، لكن الذي حدث هو أن موقع القرية كان استراتيجيا بالنسبة إلى خطة التطهير، ولأن الهاغاناه كانت وقعت الاتفاق مع أهالي القرية، فإنها قررت أن ترسل إليها قوات الإرغون وعصابة شتيرن، كي تُعفي نفسها من أية مسؤولية رسمية، فاقتحم الجنود الصهاينة القرية، ورشقوا البيوت بنيران المدافع الرشاشة متسببين بقتل العديد من سكانها، ثم جمعوا بقية القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد، وانتهكوا حرمة اجسادهم، في حين أغتصبت العديد من النساء ثم قتلن من بعد. يحكي بابي في كتابه.
بعد الانتهاء من خطة التطهير المعروفة باسم خطة “دالِتْ” التي تعني خطة (د) دال بالعبيرية، انتقلت العصابات الصهيونية الى مرحلة جديدة، هي مرحلة محو أثار الجريمة، وكذا محو الذاكرة واستبدال الاسماء الفلسطينية للقرى التي هُجّر أهلها، فعُهد الى لجنة “التسميات الرسمية” القيامَ بمهمة إطلاق أسماء عبرية على الأراضي والاماكن التي استولى عليها الاسرائليون.
ولإخفاء القرى الفلسطينية المدمرة، زُرعت ارض هذه القرى بأشجار الصنوبر والسرو، لتتحول الى غابات حديثة، حيث موّل الصندوق القومي اليهودي تشجير العديد من القرى الفلسطينية لتتحول الى حدائق عامة وغابات لدعم صناعة الخشب في إسرائيل، ولاعطاء مظهر اوربي للمنطقةـ كما انشئت باحات استراحة واستجمام على انقاض الاماكن التي شهدت أعنف حالات الاعدام الجماعي للفلسطينين.
ويورد بابي في كتابه أن أرض بعض القرى رفض أشجار الصنوبر، لان الجغرافيا والمناخ لا يسمحان باستنبات مثل هذه الاشجار، رغم الاعتناء الكبير بها والتسميد، إلا أن سرعان ما تمرض هذه الاشجار وتتهالك، ويحكي قصة شجرة صنوبر إنشقت الى اثنين لتنبت وسطها شجرة زيتون، ويوضح أنها القصة ليست مجاز، بل هي قصة واقعية لمقاومة الارض قبل الانسان.
كما يشير بابي إلى اغتيال المبعوث الاممي؛ الديبلوماسي السويدي فولك برنادوت في شتنبر 1948 فقط لانه كان يدافع عن قرار التقسيم الاممي واقترح عودة اللاجيئن الفلسطينين لحل القضية، ورغم أن الرجل كان يحظى بدعم الاسرائيليون أنفسهم لأنه كان قد ساعد اليهود بشكل كبير للهروب من النازية حيث كان نائب رئيس الصليب الأحمر السويدي حينها، لكن لمجرد تمسكه بحق عودة الفلسطينين إلى منازلهم التي هجروا منهم كان مصيره الإعدام على يد عصابة شتيرن الصهيونية، لاغتيال فكرة العودة ومحو أثار التطهير العرقي.
يخلص بابي في كتابه إلى ضرورة اعتراف اسرائيل بالتطهير العرقي الذي ارتكبته في حق الفلسطينين سنة 1948 بوصفه خَطوة أولية أساسية لعودة اللاجئين والبحث عن حل حقيقي للقضية بعيدا عن الأوهام والبروباغندا وتزييف الحقائق، كما ينتقد حتى مفهوم “النكبة” الذي أطلقه العرب على ما حدث في 48، لأن النكبة بالنسبة اليه مفهوم مخفف لا يستوعب فعلا ما حدث حينها، كما أنه لا يشير بوضوح إلى المسؤول الحقيقي عما حدث.
لقد كان ايلان بابي في هذا الكتاب “أشجع مؤرخ أسرائيلي وأكثرهم تمسكا بالمبادئ وأحدّهم مَضاءً” كما قال عنه الصحافي الاسترالي المعروف جون بِلْغَر المقيم في لندن والذي سبق له أن عمل مراسلا حربيا في الفيتنام.
*ينشر بإتفاق مع “كاب راديو”