المدير برهون حسن 00212661078323
الخبير محمد براو يكتب: المغرب أمام تحديات مكافحة الفساد.. إطار مفاهيمي وتحليل تقييمي (3/3)
تنويه: ينشر موقع “لكم “ هذه المقالة العلمية على حلقات، بالاشتراك مع المجلة الاكاديمية المغربية المحكمة “مجلة التدبير والرقابة على المال العام”، التي يديرها الخبير الدولي والباحث الدكتور محمد براو، والتي ستنشرها كاملة في عددها الثاني الذي سيصدر خلال الاسابيع القليلة المقبلة.
2- ضعف تمثل معايير الاستقلال والفعالية والشفافية والمسؤولية من قبل أجهزة الحكامة ومكافحة الفساد
رغم ما يبدو من إرادة حسنة تتمثل في مجموعة من المساعي والإجراءات التي قامت بها الدولة والحكومات المتعاقبة، إلا أنها تظل محدودة وغير فعالة. وأحد أهم الأسباب يتجلى في ضعف تمثل المعايير والممارسات الفضلى الدولية المتعلقة باستقلال وفعاليةوشفافية ومسؤوليةأجهزة الحكامة ومكافحة الفساد، وضعف التواصل والتنسيق فيما بينها وفي علاقاتها مع كل من الحكومة والبرلمان والقضاء. وتتمثل أبرز المعايير “الكامنة”، أي التي لم تتحقق بعد، أو أنها محدودة أو غير مستكملة التفعيل، فيما يلي:
استقلال وفعالية هذه الأجهزة: غياب أو نقص في مقتضيات التطبيق الفعلي لعناصر إطارها القانوني والمؤسساتي؛ والسلطات والصلاحيات الفعلية بالقدر الكافي؛ والحرية الكاملة في وضع البرنامج السنوي والاضطلاع بجميع الوظائف والمهام المخولة لها قانونا؛ والحق الكامل في الولوج إلى المعلومات؛ والحق والواجب في نشر جميع نتائج أعمالها؛ وأخيرا وليس آخرا في الآليات المناسبة لتتبع التوصيات وضمان عدم الإفلات من العقاب بصدد أفعال الفساد المضبوطة.
شفافية هذه الأجهزة ومسؤوليتها: حتى سنة 2022 (بصورة غير مكتملة)، يلاحظ أن هذه الأجهزة لا تنشر استراتيجيتها المحددة الأهداف والميزانية والجدولة الزمنية، ولا تقارير التدقيق المستقل لماليتها؛ والتقييم الخارجي أو بواسطة النظراء لمنجزاتها.كما أنها لا تنشر معلومات مقنعة عن مدى التزامها المعايير المهنية الموضوعية في انتقاء تدخلاتها، مما يغذي الشكوك والتصريحات حول نزاهة هذه التدخلات.
خمس عقبات في الطريق
وهكذا، وبالرغم من أن المغرب يتوفر على العناصر الأساسية لمنظومة معيارية ومؤسساتية عصرية نسبيا، لكن تبقى مسألة الفعالية العملية لمنظومة الحكامة ومكافحة الفساد من أهم أسباب تعثر سياسات محاربة الفساد؛ والتي يمكن تفسيرها من خلال العقبات الخمس التالية:
العقبة الأولى: تعدد الهيئات والأجهزة في غياب إطار مؤسساتي للتنسيق والتعاون ولا سيما بين هيئات الرقابة الداخلية والخارجية (المفتشيات العامة للوزارات والمفتشية العامة للإدارة الترابية والمفتشية العامة للمالية والمجلس الأعلى للحسابات) من جهة والبرلمان والقضاء من جهة أخرى، وهو ما يصعب إمكانية التنسيق والتواصل الوظيفي المطلوب بين هذه المؤسسات التي تتشارك نفس الهدف الاستراتيجي. لكن، ينبغي التنويه إلى أن الحكومة المغربية السابقة قد أحدثت اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، باعتبارها آلية مؤسساتية جديدة لتنسيق جهود مكافحة الفساد، لكن يلاحظ غياب آلية التواصل بينها وبين المجلس الأعلى للحسابات، لا في مرسومها المؤسس (صدر بتاريخ 23 يونيو 2017) ولا خارج إطار هذا المرسوم. علما أن المجلس الأعلى للحسابات، رغم استقلاله عن الجهاز الحكومي، فإنه يعتبر من أهم أعمدة منظومة النزاهة وفقا للمعايير والممارسات الفضلى الدولية، ويجب عليه أن ينخرط بدوره في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد. وعلما كذلك أن الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها هي هيئة مستقلة عن الجهاز الحكومي، لكن منصوص عليها في المرسوم المذكور.ومع ذلك، من الملاحظ مؤخرا بداية تحرك تنسيقي بين بعضها انطلاقا من سنة 2022 تحت وقع المطالبات الدولية والرغبة المغربية في مغادرة اللائحة الرمادية فيما يخص الشفافية وغسل الاموال.
العقبة الثانية: شيوع ثقافة رقابية غارقة في النظامية والمطابقة ومبنية على تقديس الوثيقة والقاعدة المكتوبة الشكلية على حساب النتيجة والأداء. وثقافة الأداء المؤسساتي بدورها محدودة الانتشار والتملك، بحيث لا يعرف بالضبط ما هي القيمة المضافة للتوصيات الصادرة عن مؤسسات الحكامة ومكافحة الفساد في تجويد مردودية الإدارة العمومية وفي الحد من تبذير المال العام والاعتداء عليه، في غياب نظم وآليات “قياس الجودة”؛ فالمؤسستان المعنيتان بإصلاح الحكامة الإدارية والمالية (“الوسيط” والمجلس الأعلى للحسابات) مثلا، لم تصدرا أية دراسة تقييمية لفوائد التقارير التي أصدرتاها على مستوى فعالية وآثار الأعمال المنجزة من قبلهما، أي أنهما تقفان عند حد الإفراج عن المخرجات من ملاحظات وتوصيات ولا تتعديان ذلك إلى مستوى تقييم أثر تلك الأعمال وفق مقاربة “القيمة والفوائد (حوار الباحث مع جريدة المساء: عدد 3671 السبت-الأحد 25-26/08/2018)؛ وفي هذا الاطار تعتبر الندوة الصحفية التي يعقدها رئيس مؤسسة الوسيط سنويا تقدما ملفتا للانتباه وجديرا بالإشادة ، لكنها لا ترقى إلى مستوى تقييم التقدم الذي تحرزه المؤسسة ذاتها وتقدير مدى فعاليتها بقدر ما تكون رميا لكرة المسؤولية إلى الجهة الخاضعة لرقابته أي الإدارة العمومية وهو توجه أحادي وغير منصف.
العقبة الثالثة: شفافية محدودة ونتائج دون التوقعات بخصوص عملية إنفاذ القانون بشأن المآلات المخصصة للقضايا المتعلقة بجرائم الفساد المضبوطة والمحالة على القضاء مما يشيع جملة من التساؤلات في أوساط الرأي العام بصدد جدية وديمومة الالتزام بمبدأ عدم الإفلات من العقاب.
العقبة الرابعة: عدم التمييز بين الملاحظات المتعلقة بسوء تدبير المؤسسات والبرامج والمشاريع العمومية، ، وبين المخالفات والانزلاقات التي تكتسي طابع الجرائم والاختلاسات، فالأولى ينبغي ترتيب جزائها الإداري والسياسي، بينما الثانية ينبغي متابعة مقترفيها جنائيا، الأمر الذي يؤدي للخلط بين مفهوم الحكامة ومفهوم محاربة الفساد.
أوبين تصحيح اختلالات التدبير وبين زجر الفساد في تدبير الشأن العام، أو بعبارة أخرى بين المقاربة الوقائية والمقاربة الزجرية لسياسات مكافحة الفساد، فالمجتمع يركز على الزجر والجهات الرسمية كانت، ماتزال،تركز على الوقاية، وكأننا أمام خيارين حديين اثنين لا ثالث لهما: إما الإفلات التام من العقاب أو الزجر الجنائي الكلي.
العقبة الخامسة: المعيقات الثقافية المتمثلة في رسوخ سلوك تطبيعي مع الفساد في الوعي الجمعي لقطاعات معتبرة من المجتمع تعبر عنها مقولات شعبية شائعة من قبيل: (اللي ماعندو فلوس كلامو مسوس)، (اذهن السير يسير)، يزيد في استفحاله الصعوبات التي تعترض إدماج المجتمع المدني في الجهود الرسمية، وشكاوى جمعياته المستقلة والجادة من بعض المضايقات ومن ضعف الموارد والإمكانيات.
نقص الموارد وضعف القدرات
علاوة على مسألة جدية الإرادة السياسية والتحديات المؤسساتية والثقافية، تعتبر مسألة الموارد البشرية والمادية والمالية المناسبة والقدرات المؤسسية والتدبيرية لأجهزة الحكامة ومكافحة الفساد أحد التحديات الأساسية وراء بطء تفعيل سياسات مكافحة الفساد في المغرب. فعلى سبيل المثال، لا يتوفر المجلس الأعلى للحسابات على كم من الموارد البشرية لمعالجة كم هائل من الحسابات والمؤسسات والبرامج والمشاريع العمومية؛ فضلا عن المهام الجديدة المتعلقة بالتصريح بالممتلكات ومراقبة حسابات الأحزاب السياسية أو المتعلقةبالمساعدة للأجهزة الدستورية الأخرى ولا سيما البرلمان.أما الهيئة الوطنية للنزاهة فمقرها الموجود في أحد طوابق بناية بشارع النخيل بحي الرياض بالرباط، يدعو للدهشة والذهول بتواضعه وعدم ملائمته لأهمية ورهبة الرسالة الردعية للمؤسسة المفترض أن ترهب غول الفساد. ومواردها البشرية مازالت في طور التأسيس وتكوين القدرات المهنية في مجالات تستدعي الدقة والخبرة العميقة. ونفس المشكل البشري وفيمجال تكوين القدرات يعاني منه جهاز القضاء…
مسلمات وخيارات استراتيجية تحفز على التعامل ب”جدية” مع موضوع الفساد
في ضوء استكمال عدة شروط مؤسساتية لم تكن موجودة قبل نهاية سنة 2022، وفي غمرة هذه التطورات الإيجابية وعلى رأسها تأكيد الملك في أخر خطاب عرش سنة 2023، على قيمتي الجدية والحزم، ، ثمة أربعة حقائق تأسيسية وتمهيدية مسلم بها ينبغي التشديد عليها والاستنارة بدلالاتها علميا وعمليا تدعونا للتفاؤل الحذر:
المسلمة الأولى : لا يجادل أحد في مغرب اليوم أنه في ظل محدودية الخيارات الاقتصادية الجذرية وفي ظل عنت الظرفية العالمية، وفي ظل الاختلال البنيوي الواضح بين الموارد والتكاليف، فإن المورد الأساسي المتفق على وجاهته ونجاعته ومردوديته، هو مورد الحكامة الرشيدة ومكافحة الفساد.
المسلمة الثانية: لا يجادل أحد في مغرب اليوم أن الدولة والحكومات المتعاقبة منذ حكومة اليوسفي قد وضعت النزاهة ومكافحة الفساد ضمن المكونات الاستراتيجية لبرنامجها الحكومي وكذا ضمن الالتزامات التطبيقية المتمثلة في الرسائل التأطيرية و التوجيهية لرئيسها إلى أعضاء الحكومة، لكن جديدا تم تسجيله ما بعد دستور 2011 وتمثل في السياق الدستوري السياسي الذي رفع مهمة مكافحة الفساد من مجرد التزام حكومي إلى رأسمال رمزي وسياسي وأخلاقي يتعين صيانته من الذبول والنضوب لأن الظرفية جعلت منه مصلحة استراتيجية لدولة تسعى للتنافس الإقليمي و الإشعاع الدولي، أكثر من مجرد كونه هو مصلحة حكومات محدودة الأجندة الزمنية.
المسلمة الثالثة: لا ينبغي أن يجادل أحد في مغرب اليوم أن قضية محاربة الفساد في أفق السيطرة عليه وليس القضاء عليه قضاء مبرما هي قضية معقدة ومتشعبة الأبعاد ( راجع أعلاه)، لكن كسبها ليس مستحيلا بشرط توفر مربط الفرس وهو الإرادة السياسية المشفوعة بالقدرة والكفاءة والعزيمة التي لا تلين. و المسنودة بانخراط جميع أصحاب الشأن في عملية مكافحة الفساد، على رأسهم القيادة السياسية العليا والدعم المجتمعي الداخلي والدولي.
المسلمة الرابعة: لا ينبغي أن يجادل أحد في مغرب اليوم أن المغرب يتوفر على إطار قانوني ومؤسساتي مناسب بقدر لابأس به وقد حقق المزيد من التطور في السنوات الأخيرة ومازال، ولكن في نفس الوقت لوحظ أن معدلات الفساد تتطور هي الأخرى في اتجاه غير مرض وغير متناسب مع المجهودات المبذولة والمعلن عنها؟ وهو أمر لا تتحرج الجهات الرسمية عن الاعتراف به علنا من خلال التصريح وضمنيا من خلال إعداد المزيد من المقومات والعناصر القانونية والمؤسساتية ورصد الموارد من أجل استدراك العجز.
مناقشة الخيارات المتاحة أمام المغرب فيما يخص التعامل مع ملف”ما سلف من فساد”؟
الخيار الأول: ” العفو عما سلف”، إن خيار “العفو عما سلف” ليس بدعة أو اختراعا من رئيس الحكومة الأسبق بنكيران، أو نهجا ينبغي استبعاده كلية من حيث المبدأ، إنما هو خيار متعارف عليه، لا بل قد ينجح عندما تجتمع أسبابه الوجيهة، لكن ليس بسهولة، بل ينبغي تفسيره وتبريره مع ربطه بشرط التحديد الواضح لتاريخ نهاية سريان العفو وتاريخ بداية سريان التحقيقات والمتابعات، الذي في الغالب يحدد انطلاقا من تاريخ سريان مفعول قانون تأسيس هيئة مكافحة الفساد تختص بالتحقيق والمتابعة. في الواقع المغربي هذه الهيئة تم التنصيص عليها في الدستور لكنها قانونها ظل لفترة طويلة حبيس أروقة إعداد النصوص القانونية، ولما خرج للوجود لم تكتمل عمليا هياكل الهيئة إلا في نهاية سنة 2022، وذلك أربع سنوات كاملة بعد تعيين رئيسها الجديد. فهل سنسكت على الفساد المكتشف مابين 2015 تاريخ صدور القانون و2022 تاريخ خروج الهيئة لحيز الوجود الهيكلي، الجواب بالنفي. أولا وبما أن الطبيعة تأبى الفراغ فقد تحول المجتمع المدني والقضاء ولا سيما المجلس الأعلى للحسابات بالفعل منذ سنوات قبل أن يتراجع هذا التوجه على عهد ادريس جطو إلى ما يشبه المؤسسة المندمجة التي تجمع بين التدقيق والتفتيش والكشف والتسبب في المتابعات لزجر الفساد ، عن صواب أو عن خطأ هناك عدة ملفات فساد أحالها على القضاء وبعضها تم الحكم فيه وبعضها في طور التحقيق الجنائي مايزال.
يعلمنا “البانشمارك” أي التجارب الأجنبية القابلة للقياس والمقارنة مع خصوصيات التجربة المغربية أن قضية التعامل مع “ما سلف” من فساد هي من أكبر القضايا في الاستراتيجيات والمخططات الوطنية لمكافحة الفساد وأن الخيارات الإستراتيجية في مكافحة الفساد لا تختزل في البعد المعياري المفصول عن الواقع، بل في كيفية التعامل مع الماضي لكن في إطار خطة التصدي للحاضر والمستقبل.إن إشكالية التعامل مع “ما سلف من فساد” تشكل واحدة من العقد الكبرى في صياغة استرتيجية وطنية متماسكة ومتينة وواقعية من أجل مكافحة الفساد، وبالخصوص على مستوى الخطة التطبيقية والإجراءات العملية.
ومن هنا يطرح السؤال التالي: هل يمكن هكذا بسهولة اتخاذ قرار مراجعة ونبش ملفات ماضي الفساد ومتابعة جميع الفاسدين السالفين بكل شفافية وقانونية وعدالة وعلى قدم المساواة بين الجميع دون التحسب للعوائق العملية والأخلاقية والسياسية، مع ما يحمله الفشل المحتمل من مخاطر حقيقية قد تؤدي إلى فقدان الثقة في الأجندة المعلنة حاليا والمتعلقة بمكافحة الفساد الحالي والمستقبلي وهو ما سيؤدي بدوره إلى تآكل الإرادة السياسية التي لا مناص من الحفاظ عليها من كل إحباط أو اهتزاز حتى تستطيع قيادة البرنامج الحالي لمكافحة الفساد ؟وهل ستكون عملية المسح شاملة جاملة، وهل ستمس مصالح جميع المتورطين بمن فيهم الحلفاء والزبناء السياسيين؟ ألن يكون التكتل الحاكم عرضة للانفراط ؟ أو على الأقل لضعف الانسجام.علما أن هذا الانسجام يعتبر شرطا ضروريا للفعالية والاستدامة في عملية مكافحة الفساد؟وهل تملك الحكومة فائضا كافيا من الموارد النفسية والمالية والمادية والزمنية للتصدي لجبهة الإبقاء على الوضع القائم، من خلال فتح الملفات القديمة جنبا إلى جنب مع الرصيد المرحل من الملفات المفتوحة والرائجة حاليا وتلك التي ستفتح مستقبلا؟
في كتابه المرجعي (الانتصار في المعركة ضد (أو التغلب على) الفساد Overcoming corruption 🙂 وإضافة إلى خيار العفو عما سلف، يطرح الخبير العالمي الميداني المرموق في مجال مكافحة الفساد (دوسبيفل، 2010 ) خمسة خيارات أخرى وهي : الحقيقة والمصالحة، تحديد بداية التحقيق في ملفات الفساد بتاريخ معين، عدم تطبيق الجرائم الجديدة بأثر رجعي، الانتقاء، عدم القيام بأي شيء.
سنتوقف عند كل واحد منها تباعا،في ضوء معطيات وخصوصيات السياق المغربي:
الخيار الثاني: استنساخ سيناريو لجنة الحقيقة والمصالحة، بحيث يعترف الفاسدون بما اقترفت أيديهم علنا أمام المجتمع، ويعتذرون ويتعهدون بعدم العودة إلى سابق عهدهم ، لكن هذا الخيار إن كان قد-أقول قد- يجبر خواطر المنتهكة حقوقهم الإنسانية مع التعويض المادي، فإن الفساد الاقتصادي والمالي لا يمكن جبر ضرره المادي والمعنوي إلا باستعادة “الأموال المنهوبة”، لكن هل تستطيع الدولة العودة 50 سنة إلى الوراء لمحاكمة تدبيرها الإداري والمالي وامتدادا السياسي؟، وهل تستطيع استرجاع الأموال التي أصبحت الآن إما غير معروفة المصدر أو شبه مستحيلة التحقق من مصادرها أو أنها أصبحت في حكم المصالح المكتسبة لدى جهات تملك من النفوذ الذي لن يجعل من عملية التحقيق فيها دع عنك استرجاعها مجرد نزهة جميلة. و من هنا فإن هذا الخيار غير ممكن التحقق في المغرب عمليا، وضار ومحرج سياسيا.
الخيار الثالث: تحديد بداية التحقيق في ملفات الفساد بتاريخ معين، يصادف عموما ومنطقيا تاريخ سريان مفعول قانون هيئة مكافحة الفساد، تكون مخولة صلاحية التحقيق والمتابعة، وهذا الخيار بات واقعيا بالمغرب ابتداء من سنة 2023، لأن القانون منشور ودخل حيز التنفيذ وهياكل الهيئة تم استكمالها في نهاية سنة 2022، مما سيمكنها من ممارسة مهامها واختصاصاتها الدستورية والقانونية بناء على ما جاء حرفيا في بلاغ الديوان الملكي..
الخيار الرابع: عدم تطبيق الجرائم الجديدة بأثر رجعي، هذا الخيار غير واقعي لأنه غير مطابق لنصوص التشريع الجنائي المغربي الذي يتضمن مقتضيات زجرية قابلة للتكييف ومن ثم التعميم على جميع جرائم الفساد باستثناء جرائم فساد الممثلين والمبعوثين الأجانب كما أن القانون الجديد للهيئة الوطنية للنزاهة قد وسع من مفهوم الفساد ليتجاوز المفهوم الإجرامي الجنائي.
الخيار الخامس: تبني خيار الانتقاء السلبي، والحق يقال في ظل ضعف التواصل وتحت ضغط الماكينة الإعلامية فإن انطباعا تم خلقه بأن المغرب يسير وفق هذا الخيار الذي ينطوي على مخاطر جمة قد تضرب مصداقية الخطاب الرسمي حول مكافحة الفساد، وشبهة الانتقاء السلبي لازمت ملفات المجلس الأعلى للحسابات سواء على مستوي اختيار موضوعات الرقابة أو على مستوى نشرها في التقرير السنوي، أو على مستوى إحالة المخالفات للنيابة العامة العدلية، ومن هنا نفهم مغزى القرار السياسي الجريء الذي كان قد اتخذه وزير العدل الأسبق المصطفالرميد، فيما يخص إعادة فحص ماجاء في التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات من ملاحظات. وذلك من أجل تصحيح الانطباع بأن ما يرد في التقرير السنوي لا يخضع للتتبعوالتحقيق من طرف الحكومة، لكن شبهة الانتقاء السلبي ما زالت قائمة ويجب على الحكومة المغربية بذل المزيد من الجهد من أجل تبديدها إجرائيا وشرحها تواصليا. والانتقاء من مفهوم الانتقاء السلبي إلى مفهوم الانتقاء الإيجابي.
الخيار السادس : عدم القيام بأي شيء وتسويق الآمال بالقيام بكل شيء : هذا الخيار بدوره غير واقعي وغير منتج بل وضار سياسيا ومعنويا لسمعة المغرب ومدمر لطموحاته التنافسية الإقليمية والدولية، ويعتبر استكمال هيكلة الهيئة الوطنية للنزاهة واحدة من الإشارات الرمزية القوية والصريحة في القطع مع هذا الخيار.
رابعا: استنتاجات وتوصيات
استنتاجات
1. سيكون من الصعب على المغرب الإيفاء بالتزاماته الدولية في مجال النزاهة ومكافحة الفساد، من خلال تدابير تقنية أو مشاريع معزولة، ما بقيت الفعالية النسقية للنظام الوطني للنزاهة كامنة أو محدودة ومردودها ضعيفا.
2. لقد صدرت قرارات ملكية هامة متلاحقة منذ نهاية 2018 تمثلت في تعيين رئيس جديد لمجلس المنافسة وما تلاه من تعيين لأعضائه، ثم ملء شغور منصب رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، وتعيين رئيسين جديدين لكل منوسيطالمملكة والمجلس الأعلى للحسابات.
3. تستند المعركة المغربية المتجددة ضد الفساد إلى سلاح استراتيجي حاسم وهو التوجيهات الملكية التي تترجم وجود إرادة سياسية عليا في مكافحة الفساد.
4. يعتبر القرار الملكي القاضي باستكمال هيكلة الهيئة الوطنية للنزاهة في نهاية سنة 2022خطوة استراتيجية في الاتجاه الصحيح؛ تنبئ بتفعيل الاختصاصات القانونية والدستورية للهيئة وبالتالي إمكانية تجويد حكامة سياسات مكافحة الفساد وتحسين نتائجها.
5. تتمثل خارطة طريق الهيئة الوطنية للنزاهة في تفعيل التوجيهات الملكية التالية: “المبادرة والتنسيق والإشراف على تنفيذ سياسات محاربة الفساد وضمان تتبعها، والمساهمة في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، وثقافة المرفق العام والمصلحة العامة، وقيم المواطنة المسؤولة. والتنسيق والتعاون وتضافر الجهود، مع المؤسسات والهيئات الوطنية المعنية، من أجل التعبئة الجماعية، واستعمال جميع الآليات التحسيسية والوسائل القانونية، من أجل الوقاية من هذه الظاهرة، ومحاربتها في مختلف تجلياتها، وإعمال المساطر القانونية والقضائية في حق مرتكبيها” (و م عللأنباء بتاريخ 13-1- 2018).
توصيات
1. تدارك التعثر في تحقيق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد لأهدافها من خلال مراجعة تقدمها وتحيينها وتجديد الالتزام الموصول والتتبع المنهجي لأهدافها، مع نشر نتائجه بشكل دوري وإشراك المجتمع المدني والمواطنين في هذا التتبع والأخذ بملاحظاتهم.
2. بعد استكمال هيكلتها، ينبغي مباشرة القيام بتدقيق مؤسساتي شامل وعاجل للهيئة الوطنية للنزاهةقبل استئنافعملها، وذلك مع من أجل التشخيص الدقيق لحاجياتها والوقوف على مكامن القصور التنظيمي والبشري والمهني،ثم صياغة استراتيجتهاالمحددة الأهداف والمجدولة التنفيذ على هدي ذلك التشخيص وتتبع تنزيل خطتها التنفيذية، مع تأمين الحماية لها من التهديد لصلاحياتها ولاستقلالها ورفدها بالموارد والقدرات..
3. تعزيز الحماية للمبلغين عن الفساد من منظور شمولي متسق، وتعديل قانون التصريح بالممتلكات بالموازاة مع الإسراع في سن قانون فعال حول الإثراء غير المشروع.
4. تعميم مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ليشمل كل من يضطلع بمسؤولية الترخيص والمنع أو يستفيد من تمويل عمومي.
5. مراقبة وتتبع نزاهة واستقلالية الهيئات والكيانات ذات صلاحيات المراقبة والتفتيش والإحالة والتحقيق والبت في المخالفات والجرائم ذات الصلة بالفساد بالمفهوم المنصوص عليه في القانون المنظم للهيئة الوطنية للنزاهة.
(انتهى)
المراجع الأساسية المعتمدة
1. Berraou.M (2019), the TheLimits of Anti-Corruption Policies in Morocco,
https://mipa.institute/wp-content/uploads/2019/03/mohamed-berraou-english-2-.pdf
2. Cadot.O (1987), Corruption as a gamble. journal of Public Economics 33 (1987) 223-244. North-Holland.
3. Cressey D.R. (1950). “The criminal violation of financial trust”, American SociologicalReview, vol. 15, n° 6, p. 738-743.
4. De Speville.B(2010) Overcoming Corruption: The Essentials. Kuala Lumpur: Research for Social Advancement, 2010), 112 pp.
5. KAUFMANN,D (2005) Myths and Realities of Governance and Corruption, chap 2.1. P 82. World bank docs.
6. Kiser, Edgar, 1999,“ComparingVarieties of Agency Theory in Economics, PoliticalScience,andSociology: An Illustration from State Policy Implementation,” SociologicalTheory,Vol. 17, No. 2, July. Pp. 146-170.
7. Klitgaard (1996) Equation de Klitgard in : Bresson J.C.(2000) «La Banque Mondiale, la corruption et la gouvernance». Revue Tiers Monde n° 161,Janvier-mars, p. 65.
8. Knight, J. 1992. Institutions and social conflict. Cambridge: Cambridge UniversityPress.
9. Mesquita, Bueno de (2003). The logic of politicalsurvival. MIT Press
10. North D (1990) Institutions, institutional change and economic performance. Cambridge University. Press, Cambridge ;Pp 3-36.