جريدة بريس ميديا الأوروعربية للصحافة PRESS Medias Euro Arabe
المدير برهون حسن 00212661078323

بورتريه العالِم المغربي رشيد اليزمي : تفسير عدم منحي جائزة نوبل للكيمياء

– اخترع تقنية تمكن من شحن بطاريات السيارات الكهربائية في مدة لا تتجاوز 20 دقيقة بدلاً من ساعة المعمول بها حاليا
– تعاون مع وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” لإرسال مركبات، تعمل بالبطاريات القابلة للشحن، إلى المريخ
– تولى في عام 2010 إدارة البحوث في الطاقة المتجددة بجامعة “نانيانغ” للتكنولوجيا بسنغافورة.
– نال في مسيرته العلمية أكثر من 120 براءة اختراع في الكيمياء

 

يعد العالِم المغربي رشيد اليزمي صاحب بصمة مهمة في صناعة الهواتف الذكية، بعدما اخترع قبل نحو ست سنوات شريحة من الليثيوم تعتبر اليوم من مكونات بطاريات الهواتف النقالة الأساسية، ما جعله ضمن أهم عشر شخصيات مسلمة في العام 2015.

وكان اسم اليزمي برز علمياً في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، عندما عمل على تطوير بطاريات الليثيوم وجعلها لأول مرة قابلة للشحن، الأمر الذي شكل مقدمة لتطور علمي وصناعي كبير في المجال التكنولوجي عرفه العالم لاحقاً.

هذا الاختراع دفع كثيرين، حول العالم، إلى وصف المخترع المغربي بـ”أب بطاريات الليثيوم”.

والمعروف أن البطاريات التقليدية التي كانت تستعمل في الأجهزة الإلكترونية والهواتف القديمة، على الرغم من أنها كانت أيضا قابلة للشحن، فإنها لم تكن تواكب مميزات الهواتف الحديثة والأجهزة المتطورة مثل ما تقدمه بطارية الليثيوم التي طورها اليزمي.

لكن الإنجازات العلمية للمهندس المغربي تجاوزت حدود البطاريات القابلة للشحن، المستخدمة في الهواتف الذكية والحواسيب اللوحية. فقد توصل أخيراً إلى اختراع تقنية جديدة وغير مسبوقة، تُمكّن من شحن بطاريات السيارات الكهربائية في زمن قياسي، لا يتجاوز مدة “الجلوس في باحة محطة الاستراحة لاحتساء كوب من القهوة”.

هذه التقنية الجديدة اعتبرتها شركة “تيسلا موتورز” الأميركية، المتخصصة في صناعة السيارات الكهربائية، “حلاً سحرياً” لمنتجاتها التي تغزو العالم شيئاً فشيئاً.

وبإمكان هذه البطاريات، التي تطلبت من اليزمي 8 سنوات من البحث، أن تشحن السيارات الكهربائية في مدة لا تتجاوز 20 دقيقة، بدلاً من ساعة المعمول بها حاليا في عدد من دول العالم، من بينها الولايات المتحدة.

وأثير اسم اليزمي قبل نحو سنتين، عندما فاز ثلاثة من زملائه شاركوا معه في تطوير بطارية الليثيوم بجائزة “نوبل” في الكيمياء لعام 2019.

وأثير جدل عربي، حينها، عن “إقصاء عنصري للعالم المغربي” عن الجائزة، على الرغم من أنه كان مشرفاً على مشروع تطوير البطارية وتمت بتوجيه منه.

في حين برّر آخرون الأمر بأن قواعد الحصول على “نوبل” لا تسمح بمنحها لأكثر من ثلاثة أشخاص.

** كفاح علمي ومسيرة حافلة

ولد اليزمي في مدينة فاس (شمال) عام 1953، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي، وبدأ حياته الجامعية في جامعة “محمد الخامس” في العاصمة المغربية، الرباط، قبل أن يغادرها عام 1972 نحو فرنسا، لبدء رحلة عملية جديدة كانت مقدمة لسطوع نجم المخترع المغربي في العالم.

وفي بلاد نابوليون، التحق الشاب الطموح بالأقسام التحضيرية التي أهلته بعدها للتخصص في هندسة الكيمياء بمعهد “غرونوبل للتكنولوجيا” حيث تابع دراساته العليا حتى نال شهادة الدكتوراه في الكيمياء عام 1985 من المعهد ذاته.

هذا الاختراع دفع العديدين لوصف المخترع المغربي بـ “أب بطاريات الليثيوم”.

أبحاث علمية مرموقة وبراءات اختراع في مجال الكيمياء، أهّلت المخترع المغربي لأن يكون واحداً من أبرز الباحثين في “المعهد الوطني للبحث العلمي” في باريس، ومديرا للبحوث فيه بين عامي 1998 و2007.

إلى جانب ذلك، عمل اليزمي في جامعات دولية مرموقة في عدد من دول العالم، كجامعة “كيوتو” اليابانية ومعهد “كاليفورنيا للتقنية” (كالتك) الأمريكي.

كما تعاون في مجال البحث مع وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، في برنامج يهدف لإرسال مركبات فضائية تعمل بالبطاريات القابلة للشحن إلى كوكب المريخ. وتُوّجت تلك البحوث عام 2005، بإرسال مركبة إلى المريخ تستعمل بطاريات ليثيوم تشحن بالطاقة الشمسية، لأول مرة.

وفي عام 2010، استقر اليزمي في سنغافورة، مديراً للبحوث في الطاقة المتجددة بجامعة “نانيانغ” للتكنولوجيا.

** اختراعات وجوائز

المسيرة العلمية الحافلة للعالم المغربي، تخللها نيل أكثر من 120 براءة اختراع في الكيمياء، إضافة إلى نشره أكثر من 200 بحث علمي في مجلات علمية مرموقة.

إلى ذلك، تقلد اليزمي أوسمة وجوائز عالمية ومحلية، من أبرزها وسام “جوقة الشرف” ‪ في فرنسا، والوسام الملكي للكفاءة الفكرية من ملك المغرب. كما نال في 2014 جائزة “دريبر” التي تمنحها الأكاديمية الأمريكية للهندسة في العاصمة واشنطن.

وفي 2016، تم تكريم المخترع المغربي من قبل رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس‎، بأعلى درجة تكريمية يمكن للحكومة الفرنسية منحها للمخترعين.

وعلى رغم بلوغه الـ68 من العمر، ما زال اليزمي ينكب على إجراء بحوثه، بلا كلل، علّها تتوج بإنجازات علمية في المستقبل ا

 


 

  • حاوره محمد كريم بوخصاص 

يعتبر رشيد اليزمي (من مواليد 1953) أحد أهم العلماء الذين أنجبهم المغرب في العصر الحديث. فالرجل يسمى في الأوساط العلمية “أب بطاريات الليثيوم” بفضل اختراعه الذي يعود إلى سنة 1980 والشبيه باكتشاف الإنسان البدائي لتقنية إشعال النار والذي غير وجه البشرية.

يتمثل هذا الاختراق العلمي في اكتشاف اليزمي التقنية التي تجعل البطارية قابلة للشحن باستعمال معدن الغرافيت. البطارية التي تعتمد عليها البشرية طيلة العقود الأربعة الماضية في كل الأجهزة القابلة للشحن، من الهواتف النقالة إلى الحواسيب والسيارات والطائرات والبواخر والعديد من الأجهزة الكهربائية.

لم تتوقف إنجازات اليزمي عند هذا الاختراع، فقد واصل تحقيق السبق العلمي طيلة السنوات الماضية، قبل أن يعلن مطلع شهر شتنبر الماضي عن وصوله إلى اختراع ثوري جديد، يتمثل في شاحن يمكنه شحن البطارية في أقل مدة ممكنة، لا تتعدى خمس دقائق فقط، وهو ما يتوقع أن يحدث ثورة في عالم السيارات الكهربائية، ليبقى اسمه خفاقا في الآفاق مقترنا بنجاح تلو آخر، في وقت يواصل تحقيق أمجاده خارج بلده المغرب، وتحديدا في البلدان التي تعرف كيف تصطاد “المخاخ” ـ كما يصف ذلك ـ حيث اشتغل قرابة عشر سنوات مديرا للبحوث في المعهد الوطني للبحث العلمي في باريس، وعشر سنوات أخرى في معهد “كاليفورنيا للتقنية” الأمريكي الذي يعد الأرقى في بلاد العم سام، ويشتغل منذ شتنبر 2010 إلى اليوم في معهد للبحث في بطاريات الليثيوم بسنغافورة، بينما مازال يترجى الحصول على دعم ـ توصل به شفهيا ـ لفتح معهد للبحث في الجامعة الخاصة بفاس !!

في ظل هذا المسار الحافل الذي لم يسبقه إليه أي عالم في تخصصه، والذي كان من محطاته تعاونه في مجال البحث مع وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، في برنامج يهدف إلى إرسال مركبات فضائية تعمل بالبطاريات القابلة للشحن إلى كوكب المريخ، والذي تُوّج عام 2005 بإطلاق مركبة تستعمل بطاريات ليثيوم تشحن بالطاقة الشمسية، لأول مرة، لم ينل اليزمي حظه في الفوز ـ كما كان متوقعا ـ بجائزة نوبل للكيمياء سنة 2019، حين عادت إلى ثلاثة من العلماء (أمريكي، وإنجليزي، وياباني) كانوا ضمن فريقه يطورون بطاريات الليثيوم.

يجهل اليزمي كما غيره سبب عدم منحه هذه الجائزة الرفيعة، لكنه يستعبد أن يكون ذلك بسبب عنصرية مورست تجاهه مرتبطة بجنسيته أو دينه، ويحرص على تفسير ذلك بنوع من الفكاهة ـ كما يقول ـ حين اعتبر في هذا الحوار أن السبب قد يعود لكونه الأصغر سنا وسط أصحابه العلماء الفائزين. ومع ذلك لا يُعير اليزمي أي اهتمام بهذه الجائزة، ويبقى فخورا بجائزة تحصل عليها في 2014 يعتبرها أهم من نوبل، وهي جائزة “دريبر” التي تمنحها الأكاديمية الأمريكية للهندسة في العاصمة واشنطن، والتي يحتفظ بها في خزانته إلى جانب الوسام الملكي للكفاءة الفكرية الذي وشحه به الملك محمد السادس ووسام “جوقة الشرف” الفرنسي.

أعلنتم قبل أسابيع قليلة عن التوصل إلى اختراع شاحن لا يستغرق سوى 5 دقائق لشحن البطارية، حدثنا عن هذا الاختراع الجديد؟

هذا الاختراع هو الأخير في مسلسل انطلق منذ سنة 2016، يروم تطوير طريقة جديدة لشحن بطارية الليثيوم مختلفة عن المعمول به حتى الآن، وتعتمد على تدبير تيار الكهرباء في البطارية عوض التركيز على ضغطها الكهربائي ـ كما هو معمول به ـ من خلال التقنية المسماة بـ»الفولتاج»، حيث سمح لنا التحكم في الفولتاج بالتحكم في مدة الشحن، لننتقل من مدة 60 دقيقة المطلوبة لشحن البطارية من صفر إلى مائة في المائة التي توصلنا إليها في 2016، إلى خمس دقائق في الاختراع الجديد الذي توصلنا إليه هذا الشهر (شتنبر).

المعروف أن بطارية السيارة الكهربائية تختلف عن الأنواع الأخرى في كونها ذات طاقة عالية، حيث تَشحن طاقة أكبر بالمقارنة مع وزنها وحجمها، لذلك كانت الطريقة التقليدية في شحن البطارية تتطلب لتعبئة من 0 إلى 100 في المائة مدة زمنية تفوق الساعة، قبل أن يأتي اختراعنا في 2016 ليُخَفض المدة إلى 60 دقيقة، ولاحقا إلى 45 دقيقة فـ30 دقيقة ثم 10 دقائق و6 دقائق في عام 2021، حتى نجحنا أخيرا في خفض المدة إلى خمس دقائق فقط.

لقد نجحنا على امتداد ست سنوات، وعبر مراحل، في خفض مدة شحن بطارية الليثيوم من 60 دقيقة إلى 5 دقائق، وأعتقد أننا سنتوقف عند هذا الحد، لأن شحن البطارية في هذه المدة الوجيزة يحتاج إلى شاحن بمواصفات خاصة وقدرات تَحَمُّل عالية جدا، وعلى سبيل المثال، فإن شحن بطارية سيارة «تيسلا» الكهربائية في خمس دقائق سيحتاج إلى شاحن بطارية بأزيد من «ميغاواط» (مليون واط)، وهو ما يعني أن كلفته ستكون باهظة جدا.

يشكل هذا الاختراع سبقا ينبغي استثماره في المستقبل، لأن مستعملي السيارات الكهربائية لن يحتاجوا إلى شحن بطارية سياراتهم في خمس دقائق لتكلفتها المرتفعة، وسيقبلون أن يتم شحنها من 0 إلى 100 في المائة في مدة 15 دقيقة أو من 20 إلى 80 في المائة في مدة 10 دقائق، علما أن التجربة أثبتت أنهم يسارعون إلى شحن البطارية بمجرد اقتراب تعبئتها من عشرين في المائة كي لا تتوقف بهم في منتصف الطريق، وهكذا تبقى مدة عشر دقائق لتعبئة شحن البطارية عملية بالنسبة لأصحاب السيارات الكهربائية لأنها تعادل مدة شرب كوب قهوة.

ما هي أهمية هذا الاختراع؟ وهل ينطبق فقط على بطارية السيارة الكهربائية ؟

الاختراع يهم كل الأجهزة التي تَستعمل بطارية الليثيوم، مثل الإلكترونيات النقالة (الحواسيب والهواتف)، بل حتى قطاع الطيران، حيث عقدت اجتماعا أمس فقط (الحوار أجري ليلة الجمعة 30 شتنبر) مع سيد كشف لي التوصل إلى صنع طائرة ذات أجنحة تحمل ست مقاعد تُقلع عموديا مثل المروحية (هيليكوبتر)، وتعمل ببطارية الليثيوم.

اللائحة طويلة للأجهزة التي تعمل ببطارية الليثيوم، ويمكن أن نأخذ مثالا آخر وهو «الثقاب» الجهاز الذي يستعمل لثقب الجدران، فلم يعد يقتصر عمله على الحبل المربوط بالطاقة الكهربائية العادية، بل أصبح يعمل بالبطارية أيضا. ونفس الأمر ينطبق على الآلة المستعملة في قَصِّ العشب، وغيرها كثير.

بل دعني أقول لك وبدون مبالغة، إن استعمال بطارية الليثيوم سينتقل إلى البواخر أيضا، وأتوقع أن تكون البواخر التي سيستعملها مغاربة الخارج للعودة إلى بلدهم في إطار عملية «مرحبا» في 2030 كهربائية، وهكذا فإن كل شيء سيصبح كهربائيا.

كل هذا التحول سيتحقق بفضل اختراعاتك، أليس كذلك؟

صحيح. ويجب التمييز بين نوعين من الاختراعات: البطارية نفسها وشاحنها، وهما اختراعان مختلفان، يتمثل الأول في اختراع بطاريات الليثيوم المكونة من الغرافيت التي تعتمد عليها البشرية في كل الأجهزة القابلة للشحن والذي توفقت فيه سنة 1980، علما أن 99 في المائة من البطاريات المستعملة حول العالم اليوم مكونة من الغرافيت بالتقنية التي اخترعتها قبل أربعين سنة، بينما يهم الاختراع الثاني خفض المدة الزمنية المطلوبة لشحن البطارية أو ما يمكن تسميته بـ»الشحن السريع» للبطارية.

بعد اختراعك الجديد المتمثل في خفض مدة شحن البطارية إلى خمس دقائق، هل ستتوقف أبحاثك في هذا المضمار أم مازالت لديك أهداف أخرى تسعى لتحقيقها؟

البحث العلمي لا يمكن أن يتوقف، لأن الحاجة لاختراعات جديدة تزداد يوما بعد يوم، والحاجة لتطوير بعض الاكتشافات تبقى حاضرة باستمرار، وهناك اليوم أسئلة عديدة تحتاج إلى أجوبة علمية، من بينها ما يتعلق بأمد حياة البطاريات واستعمالها لأطول فترة ممكنة، إذ هناك رغبة دائمة للزيادة في عمر البطارية، خاصة في ظل الإقبال الكبير على السيارات الكهربائية التي يُرَشح أن تستعمل خمسين في المائة من بطاريات الليثيوم المصنوعة، علما أن سعر البطارية المستعملة يُعَادل ثلث سِعر السيارة، وتحتاج إلى استبدالها كل ثلاث أو أربع سنوات، وهكذا فإن الحاجة ملحة للزيادة في عمر البطارية للوصول إلى عشر سنوات على الأقل، وذلك لخفض كلفة اقتناء السيارة الكهربائية.

هناك مشكل آخر يحتاج إلى تعميق البحث للوصول إلى حلول علمية، وهو زيادة سلامة استعمال بطارية الليثيوم، حيث قرأت بحر هذا الأسبوع مقالا علميا جاء فيه أن 1 من كل 7 سيارات كهربائية تحترق أو تنفجر يوميا في الصين.

أيضا ينبغي البحث في إمكانية إحداث «عمر ثان» للبطارية، وذلك ببحث إمكانية استعمال البطارية التي انتهت مدة صلاحيتها في السيارة الكهربائية في شحن الطاقة الشمسية أو ما شابه ذلك، والتوصل إلى آلية لمعرفة ومتابعة «الحالة الصحية» للبطارية.

كل هذه الأشياء يلزمها بحث علمي، وإذا رزقني الله مزيدا من العمر يمكن أن تتصل بي بعد عشر سنوات وتسألني عن مستجدات البحث حول بطاريات الليثيوم، وكن متأكد أنك ستجدني أقدم إجابات أخرى.

أفهم من كلامك أن أبحاثك لا تقتصر على خفض مدة شحن البطارية بل تشمل جوانب أخرى؟

صحيح.

 تشتغل على أبحاثك منذ 2010 في مختبر بحثي في سنغافورة، ما هي طبيعة الباحثين الذين يشتغلون معك وجنسياتهم؟ وهل ضمنهم مغاربة؟

أنا أسمي نفسي «باحث بلا حدود»، وأقبل العمل مع أي باحث عبر عن رغبته في ذلك، وأمس فقط جلست قرابة ساعتين مع باحثين من فنلندا قدموا إلى سنغافورة لحضور مسابقة الفورمولا 1 لمناقشة مشاكل بطاريات الليثيوم، وبعد نهاية اللقاء عبروا لي عن استعدادهم للعمل معي، فقلت لهم: «مبارك ومسعود». وأول أمس، كتب لي باحث من طاجكستان يطلب الاشتغال معي، فأجبته «مرحبا».

بكل صراحة، لا أفرق بين باحث وآخر، بطبيعة الحال أحب المغرب والمغاربة، لكن إذا لم يسألني أحد من المغرب فلا يمكنني أن أجيبه (يضحك).

ألم يعبر لك أي باحث مغربي عن رغبته في الاشتغال معك؟

العديد من الطلبة والمهندسين والباحثين في سلك الدكتوراه يسألون عن إمكانية العمل معي، لكن لم يكن ممكنا قدومهم إلى سنغافورة في الأشهر الماضية بسبب الإجراءات المرتبطة بمكافحة جائحة كوفيد-19، لكن ستكون أمامهم فرصة للانتماء إلى مركز التميز حول البطاريات الذكية التابع للجامعة الخاصة لفاس الذي نعتزم فتحه بتعاون مع جامعتي سيدي محمد بن عبد الله بفاس ومولاي إسماعيل بمكناس نهاية السنة الحالية أو بداية السنة المقبلة. صحيح سيكون عدد المقاعد محدودا لكن يمكن للمركز مع مرور السنوات أن يستوعب عددا أكبر من الطلبة الباحثين والمهندسين.

على كل المهتمين بتطوير العلوم والتكنولوجيا في المغرب من مقاولين وصناع ومستثمرين وحكومة ومنتخبين إيلاء الاهتمام لتطوير هذا المشروع، لأن عددا كبيرا من الباحثين والمهندسين يرغبون في دخول القطاع، والمطلوب أن نؤسس مراكز في مدن أخرى مثل القنيطرة أو طنجة أو وجدة أو الداخلة أو العيون في الصحراء المغربية، لكن ذلك يلزمه دعم كبير، وفي غياب هذا الدعم لا يمكننا فعل شيء.

على هؤلاء أن يؤمنوا بأهمية هذا المشروع، وبدل الانهماك في تشييد بنايات وفنادق يجب الاتجاه لتشييد معاهد للبحث العلمي، لأن البلاد لا يمكن أن تتطور إلا بالعلم، وإذا تخلينا عن العلم وانشغلنا بأمور أخرى ـ لاعتبارات مرتبطة بقلة المخاطر أو ما شابه – فإننا لن نتقدم إلى الأمام.

سنفتح معهدا بفاس بإذن الله لكن نتمنى أن نفتح معاهد في مدن أخرى، وعلى المسؤولين أن ينتبهوا إلى هذه الأمور، لأن مجموعة من الدول ترغب في تحقيق ذلك، فقد توصلت أمس فقط برسالة إلكترونية من أستاذ بجنوب إفريقيا أكد فيها علمه بعزمنا فتح معهد للبحث العلمي في البطاريات بفاس، ودعاني إلى القدوم إلى بلده لفتح معهد مماثل مع توفير كل الإمكانيات المطلوبة، وأيضا معهد في الكاميرون وإفريقيا الوسطى بالاستفادة مع علاقاته مع هذه الدول.

هل تلقيت الدعم المطلوب لفتح معهد فاس؟

قناعتي الشخصية، أنه إذا لم تعتمد على نفسك فإنك لن تتقدم نحو الأمام. الجميع في البداية رحب بالفكرة وعبر عن استعداده لتقديم الدعم، لكن عندما لجأنا إليهم حين انتقلنا من القول للفعل لم نجد شيئا مع الأسف.

رئيس الجامعة الخاصة بفاس لجأ إلى الاقتراض من البنك لتشييد المعهد، والآن أصبحت البناية جاهزة، لكننا نحتاج توفير الميزانية لاقتناء المعدات المطلوبة للبحث، وعندي تقدير للتكلفة بالدولار والدرهم.

كم تصل التكلفة؟

معذرة، لا أستطيع الإفصاح عن المبلغ، لأنني صراحة أعتمد على نفسي، وبدل دق أبواب المغاربة الذين يكتفون بتقديم الوعود دون الوفاء بها، أحرص على أن ألتقي بالذين يمكنهم تقديم الدعم وهم ليسوا مغاربة، فمنهم أناس في آسيا قرروا دعم إخراج المعهد بفاس للوجود، هذه هي الحقيقة والواقع مع كامل الأسف.

 ألم تتلقوا دعما من وزارة التعليم العالي أو مؤسسات البحث العلمي؟

كاين الكلام فقط (يضحك). مشكل الوزارات والمؤسسات العمومية هو ما يمكن تسميته بالبيروقراطية، تخيل أن رئيس الجامعة لا يمكنه استعمال قدر من المال بدون حصول اتفاق بشأنه في مجلس الجامعة، قد يبدو هذا الأمر عاديا لكنه يسبب تأخيرا مبالغا فيه في بعض الأحيان.

بالنسبة لدعم وزارة التعليم العالي والبحث والعلمي والابتكار فهو موجود، لكنه في الأوراق فقط، ولا يجد طريقه للتطبيق. «حنا مزروبين» ولن ننتظر أكثر، لأننا إذا اخترنا انتظار الوزارة سنبقى بدون معهد لعام آخر، وهو ما لا يمكن قبوله.

متى ستكون انطلاقة المعهد بفاس بالضبط؟

سأقول لك بمنتهى صراحة، في اليوم الذي سنجمع الحد الأدنى من الأموال المطلوبة لتجهيز المعهد من أي مستثمر سواء في آسيا أو أوروبا أو أمريكا أو المغرب سيفتح المعهد أبوابه، ونتمنى أن يتحقق ذلك نهاية العام الجاري.

 تشتغل منذ 2010  في مركز بحثي في سنغافورة، لماذا سنغافورة بالتحديد؟

(يضحك) سنغافورة قصة طويلة، بدأت في يونيو 2010 مع افتتاح حكومة سنغافورة أكبر معهد للبحث العلمي في الطاقة، من غير الطاقة النووية، في منطقة جنوب غرب آسيا باستثمار يتجاوز 100 مليون دولار، والذي يضم حوالي 200 عالم وباحث، وهو تابع لجامعة «ناميان» للتكنولوجيا، وهي أهم جامعة في سنغافورة متخصصة في التكنولوجيا إلى جانب الجامعة الوطنية لسنغافورة التاريخية التي يعود تاريخ تأسيسها إلى مائة عام. حيث تلقيت دعوة لإلقاء محاضرة في حفل الافتتاح الذي حضره وزراء، حول ما يجب أن يتركز عليه البحث العلمي في بطاريات الليثيوم خلال السنوات العشر القادمة، وبعد الانتهاء من المحاضرة قال لي مسؤولو المعهد: «مشروع السنوات العشر أعجبنا بزاف، فمرحبا بك ديروا عندنا». لم أقبل دعوتهم في البداية، لكن بعد تفكير دام شهرا كاملا قبلت عرضهم بالعمل في المعهد، وهكذا رحلت مع أسرتي من الولايات المتحدة إلى سنغافورة في شتنبر 2010، ومازلت مستقرا بها حتى الآن.

ألا تفكر في الاستقرار في بلد آخر أم أن البحث العلمي في سنغافورة جذبك أكثر؟

أنا الآن في سنغافورة لكن غدا يعلم الله أين سأكون، فكما قلت لك في سابقا، أنا عالم بلا حدود. لكن مع ذلك يلزم أن يكون عندي مكان لأنام فيه كل ليلة. حاليا بيتي في سنغافورة، لكن قد يحصل تغيير غدا أو بعد غد.

ورغم أني مستقر في سنغافورة فإني دائم السفر، فالأسبوع الماضي كنت في المغرب، وبعد أسبوعين سأكون في فرنسا للمشاركة في مؤتمر في مدينة ليون حول البطاريات هو الأكبر في أوروبا، حيث سيجمع أزيد من 700 عالم وباحث، وقد أرسلت معلومات بشأنه إلى عدد الباحثين والصناع والمستثمرين المغاربة، آملا أن يتمكنوا من القدوم إليه للاطلاع على أحدث الاكتشافات والصناعات في مجال بطاريات الليثيوم.

هل تلقيت تفاعلا من جانب المغاربة الذين تواصلت معهم؟

نعم هناك تفاعل، لكن لم أسمع لحد الآن عن واحد منهم اقتنى تذكرة السفر، لكن ربما مازال أمامهم متسع الوقت.

 كم عدد الباحثين الذين يشتغلون إلى جوارك بالمعهد السنغافوري؟ وما هي جنسياتهم؟

عشرة باحثين من جنسيات مختلفة، منهم الهندي والصيني والسنغافوري والإندونيسي والماليزي وغيرهم.

ألم تقف جنسيتك المغربية عائقا أمام إشرافك على باحثين من دول رائدة في البحث العلمي؟

الجنسية لا علاقة لها بالبحث العلمي.

 إذن يمكن القول إنك سفير للمغرب..

(مقاطعا) هذا مجرد كلام. أنا خدام، أقوم بواجباتي كباحث وعالم دون أن أفكر أني سفير لأي بلد، دون أن يمنع ذلك الباحثين الذين يشتغلون معي من معرفة أنني مغربي. هل أنا سفير أم لا؟ (يضحك) أقول للذين يعتبرونني سفيرا «مبارك ومسعود !» ويا ليتني كنت سفيرا بالفعل، كنت سأحصل على الأقل على أجر مالي عن ذلك (يطلق قهقهة). هذا لقب يشرفني، لكنني لا أفكر أنني سفير، أنا باحث علمي.

 ألا تلعب الجنسية دورا داخل مجتمع العلماء؟ وهل يستوي في هذا الوسط العالم المغربي مع العالم الأمريكي والعالم الروسي والصيني وغيرهم؟

تأثير الجنسية صفر في المائة، فهي لا تثير أي مشكلة، وهذه من الأشياء الجميلة في البحث العلمي، حيث يتم التركيز على التجربة والبحث، وبإمكان أي باحث أو عالم نشر بحثه العلمي الذي يتعرض للقراءة والمجادلة والنقد، وهذا هو السر في تقدم البحث العلمي، والجميل أنه يمكن مجادلة أي عالم أو باحث وفقا لأسس علمية وليس انطلاقا من اعتبارات أخرى.

لكن وكما أن الذكاء ليس له جنسية فإن البلادة ليس لها جنسية أيضا.

انطلاقا من خبرتك في الاشتغال في مختبرات علمية بدول رائدة على مستوى البحث العلمي، ما هي الخلطة أو الوصفة السحرية لتطوير البحث العلمي في بلادنا؟

عندما نال المغرب استقلاله قبل أزيد من ستين عاما كان في نفس المستوى أو أفضل من كوريا الجنوبية واليابان، لكن هذين البلدين أصبحا قوتين عالميتين اليوم، لأنهما اختارا طريق البحث العلمي عكس المغرب.

إن النهوض بالبحث العلمي ينطلق أساسا من تشجيع المواطنين على أن يكونوا باحثين، ولن يتأتى ذلك إلا بارتفاع عدد الخريجين من أسلاك الإجازة والماستر والدكتوراه الذين يمتلكون شغف البحث العلمي، واختيار بعض المهندسين الاستمرار في دروب البحث بدل التوجه لسوق الشغل.

ويبقى المشكل الأكبر للبحث العلمي في المغرب، وبغض النظر عن الجهود المبذولة من طرف الحكومات المتعاقبة، هو بقاء الجامعة المغربية في إطار مغربي-مغربي بعدما وضعت ستارا بينها وبين العالم، كما لو أن المغرب منغلق على ذاته، فيما التجربة تؤكد نجاح كل التجارب التي انفتحت على العالم. وما دمت في سنغافورة دعني أعطيك مثالا بهذا البلد، فرئيس الجامعة التي أنتمي إليها والذي قادها في الأربع سنوات الماضية كان سويديا، قبل أن يأخذ مكانه مؤخرا أمريكي من أصل هندي وليس سنغافوري، لأن الأهم بالنسبة إلى سنغافورة هو اختيار الأفضل لقيادة جامعاتها نحو التطور بغض النظر عن الجنسية التي يحملها.

صحيح، يتوفر المغرب على كفاءات علمية، لكن انفتاح الجامعة على كفاءات من الخارج مطلوب بإلحاح، فالأمر أشبه بلعبة كرة القدم، حيث يتم الاستثمار في مرات عديدة في مدرب أجنبي لقيادة المنتخب الوطني بحثا عن تتويج قاري أو مشاركة في مونديال عالمي، وأنا أتساءل معك: ما الذي يمنع المغرب من الاستثمار في العلماء الأجانب؟ ألا يمكن الاتفاق معهم على تحقيق أهداف محددة في مدة زمنية محددة؟

أيضا من المشاكل التي يعاني منها المغرب في البحث العلمي، انشغال الجامعات في صرف ميزانيات ضخمة في أمور شكلية بينما تبقى إنتاجاتها العلمية ضئيلة جدا، علما أن الكنز في البحث العلمي هو العقول وليس الأموال، فقد تتوفر لديك الأموال لكنك ستفشل حتما إذا لم تكن تتوفر على عقول، لذلك يبقى الاستثمار الحقيقي للجامعة المغربية هو الذي يتوجه نحو استقطاب العقول، ومنافسة دول عربية وآسيوية وأوروبية في جلب هذه الكفاءات لتنفيذ أبحاثها بكل حرية.

حاوره محمد كريم بوخصاص

يعتبر رشيد اليزمي (من مواليد 1953) أحد أهم العلماء الذين أنجبهم المغرب في العصر الحديث. فالرجل يسمى في الأوساط العلمية “أب بطاريات الليثيوم” بفضل اختراعه الذي يعود إلى سنة 1980 والشبيه باكتشاف الإنسان البدائي لتقنية إشعال النار والذي غير وجه البشرية.

يتمثل هذا الاختراق العلمي في اكتشاف اليزمي التقنية التي تجعل البطارية قابلة للشحن باستعمال معدن الغرافيت. البطارية التي تعتمد عليها البشرية طيلة العقود الأربعة الماضية في كل الأجهزة القابلة للشحن، من الهواتف النقالة إلى الحواسيب والسيارات والطائرات والبواخر والعديد من الأجهزة الكهربائية.

لم تتوقف إنجازات اليزمي عند هذا الاختراع، فقد واصل تحقيق السبق العلمي طيلة السنوات الماضية، قبل أن يعلن مطلع شهر شتنبر الماضي عن وصوله إلى اختراع ثوري جديد، يتمثل في شاحن يمكنه شحن البطارية في أقل مدة ممكنة، لا تتعدى خمس دقائق فقط، وهو ما يتوقع أن يحدث ثورة في عالم السيارات الكهربائية، ليبقى اسمه خفاقا في الآفاق مقترنا بنجاح تلو آخر، في وقت يواصل تحقيق أمجاده خارج بلده المغرب، وتحديدا في البلدان التي تعرف كيف تصطاد “المخاخ” ـ كما يصف ذلك ـ حيث اشتغل قرابة عشر سنوات مديرا للبحوث في المعهد الوطني للبحث العلمي في باريس، وعشر سنوات أخرى في معهد “كاليفورنيا للتقنية” الأمريكي الذي يعد الأرقى في بلاد العم سام، ويشتغل منذ شتنبر 2010 إلى اليوم في معهد للبحث في بطاريات الليثيوم بسنغافورة، بينما مازال يترجى الحصول على دعم ـ توصل به شفهيا ـ لفتح معهد للبحث في الجامعة الخاصة بفاس !!

في ظل هذا المسار الحافل الذي لم يسبقه إليه أي عالم في تخصصه، والذي كان من محطاته تعاونه في مجال البحث مع وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، في برنامج يهدف إلى إرسال مركبات فضائية تعمل بالبطاريات القابلة للشحن إلى كوكب المريخ، والذي تُوّج عام 2005 بإطلاق مركبة تستعمل بطاريات ليثيوم تشحن بالطاقة الشمسية، لأول مرة، لم ينل اليزمي حظه في الفوز ـ كما كان متوقعا ـ بجائزة نوبل للكيمياء سنة 2019، حين عادت إلى ثلاثة من العلماء (أمريكي، وإنجليزي، وياباني) كانوا ضمن فريقه يطورون بطاريات الليثيوم.

يجهل اليزمي كما غيره سبب عدم منحه هذه الجائزة الرفيعة، لكنه يستعبد أن يكون ذلك بسبب عنصرية مورست تجاهه مرتبطة بجنسيته أو دينه، ويحرص على تفسير ذلك بنوع من الفكاهة ـ كما يقول ـ حين اعتبر في هذا الحوار أن السبب قد يعود لكونه الأصغر سنا وسط أصحابه العلماء الفائزين. ومع ذلك لا يُعير اليزمي أي اهتمام بهذه الجائزة، ويبقى فخورا بجائزة تحصل عليها في 2014 يعتبرها أهم من نوبل، وهي جائزة “دريبر” التي تمنحها الأكاديمية الأمريكية للهندسة في العاصمة واشنطن، والتي يحتفظ بها في خزانته إلى جانب الوسام الملكي للكفاءة الفكرية الذي وشحه به الملك محمد السادس ووسام “جوقة الشرف” الفرنسي.

من المسائل غير المفهومة في مسارك، عدم فوزك بجائزة نوبل في الكيمياء لعام 2019 رغم ما حققته من اختراعات للبشرية، فيما عادت الجائزة إلى ثلاثة علماء كانوا يشتغلون معك عن اكتشافهم في حقل بطاريات الليثيوم نفسه، ما هو تفسيرك لهذا الأمر؟

ليس لدي أي تفسير، خاصة أن عمل لجان الجائزة يتسم بالسرية التامة، ولا أحد يستطيع معرفة كواليس النقاش الدائر ومجرياته، فالأعضاء يوقعون عقدا مع الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم ينص على عدم إفصاحهم عن أجواء التداول لاختيار الفائزين.

صحيح قد تتبادر إلى ذهن المرء أحيانا بعض الأسباب التي قد تكون أعاقت فوزه بالجائزة التي كان قريبا منها، لكن كل ذلك يبقى مجرد احتمالات في غياب أي دلائل ملموسة.

شخصيا، حاولت تفسير الأمر بشيء من الفكاهة، إذ كنا أربعة أشخاص مرشحين للفوز بالجائزة في 2019، ولأني كنت الأصغر سنا بينهم اختاروا الثلاثة الآخرين، على أساس أنه يمكنني الانتظار لعشر سنوات أخرى لأحصل على الجائزة، خاصة أن صديقي الأمريكي جون بي غودينوف الذي سبق أن فزنا معا بجائزتين عالميتين والذي كان ضمن الفائزين بنوبل كان عمره 97 سنة، وقد أكمل هذا العام مائة سنة، لهذا أقول مع نفسي: ربما مازالت أمامي ثلاثين سنة على الأقل لنيل الجائزة، إذا رزقني الله طول العمر طبعا (يضحك).

في الحقيقة لا تشكل هذه الجائزة أولوية بالنسبة إلي، فإذا جاءت «مبارك ومسعود» وإن لم تأت فلا بأس، ويكفيني أني فزت بجائزة «دريبر» التي تمنحها الأكاديمية الأمريكية للهندسة في العاصمة واشنطن سنة 2014، والتي تعتبر بمثابة جائزة نوبل للمهندسين، ومبعث افتخاري بهذه الجائزة أني مهندس قبل أن أكون باحثا أو مخترعا، وأنا ـ وأعوذ بالله من قولة أنا ـ أول مغربي وفرنسي (حيث أحمل الجنسية الفرنسية أيضا) فاز بهذه الجائزة، وبالنسبة لي تبقى هذه الجائزة أفضل من جائزة نوبل.

 لكن هل مازال لديك أمل للفوز بجائزة نوبل لأنك تستحقها طبعا؟

 «شكرا لك، أتمنى أن تكون أنت سي كريم في اللجنة (يضحك)، وتقول لهم والله منخرج حتى تمنحوها للسي رشيد اليزمي».

سأقول لك بمنتهى الصراحة، أنا أومن أن مثل هذه الأشياء لا يجب أن تستأثر باهتمام المرء، وعدم الفوز بهذه الجائزة لا يشكل أي مركب نقص. طبعا كمغربي سيكون الفوز بنوبل مبعث فخر وطني، وسيكون الأمر أشبه بفوز المنتخب الوطني بكأس العالم في قطر، وقد يخرج المغاربة للاحتفال في الشوارع، صدقني أريدهم أن يحتفلوا بهذا الإنجاز المغربي، لكن إذا لم يتحقق فلا مشكل في ذلك.

ألا تعتقد أن عدم منحك الجائزة في 2019 مرتبط بعنصرية أو لكونك مغربي ومسلم؟

ترويج هذا الكلام فيه مضيعة للوقت، لا أعتقد أن السبب له علاقة بما ذكرت، لأن الجائزة فاز بها من قبل علماء مسلمون وأفارقة، بل كان ضمن الفائزين في نسخة 2019 عالم مسلم، لذلك لا أتصور أن للأمر علاقة بالجنسية أو الجنس أو دولة الانتماء.

 ألا ترى أن استقطاب العقول يجب أن ينطلق من إغراء الكفاءات المغربية المشتغلة بالخارج للعودة إلى بلدها؟

هذه من الأهداف التي يجب وضعها بشكل مستعجل، مع عدم الاقتصار على المغاربة فقط، لأن الحاجة ملحة لاستقطاب أكبر عدد ممكن من العلماء والمخترعين البارزين في مجالاتهم العلمية سنويا، وأقترح إحداث لجنة حكومية مهمتها البحث عن العقول.

سأخبرك بقصتي الشخصية لتعرف ما أرنو إليه، فقبل أن أستجيب لدعوة العمل في سنغافورة سنة 2010 اشتغلت عشر سنوات في معهد التكنولوجيا بكاليفورنيا الذي يصنف الأول على مستوى العالم ويحتفظ بأكبر عدد من جوائز «نوبل دريبر»، وفي أحد أيام شهر ماي 2010 تلقيت طلبا من الرجل الثاني في جامعة سنغافورة والذي لم أكن أعرفه يطلب لقائي بعدما قَدِمَ إلى كاليفورنيا باحثا عني. لبيت طلبه واحتسيت معه كوب قهوة، لكني سأكتشف لاحقا أن مهمة هذا الرجل هي البحث عن العقول في العالم وجلبها إلى بلده سنغافورة. لم يُفصح الرجل خلال لقائنا عن عرضه، ونهج سياسة التدرج، عندما أخبرني باستعداد الحكومة السنغافورية لافتتاح المعهد المتخصص في البحث حول الطاقة ورغبتها في أن ألقي محاضرة في حفل الافتتاح.

طبعا قَبِلت هذه الدعوة، لكني متأكد أنها لو همت دعوتي للعمل في المعهد الجديد لرفضت، لكن ذلك الرجل عرف كيف يهيئ الطريق لتحقيق غايته حين اكتفى بدعوتي كمحاضر فقط. ومباشرة بعد انتهاء المحاضرة التي تناولت ما يجب أن تنصب عليه الأبحاث في بطاريات الليثيوم خلال العشر سنوات المقبلة ـ كما قلت لك سابقا ـ جالسني الرجل مجددا وعرض علي عقد عمل، وتعرف بقية القصة.

دعني أتساءل معك بمنتهى الصراحة: هل يوجد في المغرب شخص مكلف بمثل هذه المهمة؛ البحث عن العقول. مثل هؤلاء الأشخاص موجودين في كل الجامعات العالمية، ويسمون «les chasseurs des tètes « (صيادو الأدمغة)، ومهمتهم البحث عن العقول أينما كانوا ومن مختلف المجالات العلمية (البيولوجيا، والفيزياء، والفضاء، والإلكترونيك، والذكاء الاصطناعي وغيرها)، حيث يطلعون على أحدث المنشورات العلمية ودراسة قدرات أصحابها، قبل القيام بدور «سفير العلم» المتمثل في البحث عن «المخاخ» واحتساء قهوة معهم لبدء مسار جلبهم للعمل في بلدهم.

سأقول لك بمنتهى الصرحة، إذا بقي الوضع في المغرب على ما هو عليه، واستمرت الجامعات المغربية خارج تصنيف الألف جامعة الأولى في العالم، فإن حال البحث العلمي في 2022 سيبقى هو نفسه في 2030 و2040 و2050، بينما بلدان في نفس مستوانا تُحقق تقدما في البحث العلمي سنة تلو أخرى، مثل السعودية التي دخلت جامعتان أو ثلاثة منها قائمة الجامعات المائة الأولى في العالم وليس الألف !!

 غادرت المغرب صوب فرنسا طالبا لاستكمال دراستك العليا، لينطلق مسارك كمهندس ثم باحث قبل أن تتحول إلى عالم بلا حدود، كما تسمي نفسك، فما هو سر نجاحك؟

السر في ما أسميه «الفضول الإيجابي»، حيث كنت منذ صغري كثير الأسئلة منشغلا بالبحث عن أجوبة لها سواء في المدرسة أو المحيط العائلي أو الحي الذي أسكن فيه، وكنت عندما أجد الجواب الملائم أقول «مبارك ومسعود» لكن عندما أعجز عن ذلك أبحث عن سُبُل أخرى، وبدأ اطلاعي الواسع على العلوم في سن الـ14، حين كنت أقصد كل يوم سبت المعهد الفرنسي بلافياط بفاس، لأقضي فيه ساعتين في مطالعة المجلات العلمية التي كانت متاحة لزواره. ووسط هذا الحماس في المطالعة كانت لدي مواعيد لممارسة لعبة كرة القدم المفضلة لدي مع أصدقائي، وأظن أني كنت لاعبا مميزا.

أمر آخر كان يثير فضولي، وهو الرغبة الدائمة في فهم أشياء معينة، وكم من أشياء لم أفهمها لحد الآن، رغم أن الناس يقولون إني عالم، لكن كما قال تعالى في محكم كتابه: «وما أوتيكم من العلم إلا قليلا»، وانطلاقا من هذه الرغبة بدأ اهتمامي بمجال العلوم والآداب في نفس الوقت، وما لا يعرفه الناس أني كنت شاعرا في وقت ما، وأيضا ممثلا مسرحيا، ولعل أكثر عمل أريد العودة لممارسته عندما يسعفني الوقت هو الوقوف على خشبة المسرح، وإن كانت علاقتي به لم تنقطع كليا، فحاليا أنا منتج في مجموعة مسرحية بفرنسا.

أيضا، أنا مهووس بالتقاط الصور، ولم تفارقني آلة التصوير مذ كان عمري 15 سنة، حيث أحتفظ بكل الآلات التي رافقتني في منزلي، إضافة إلى الصور التي التقطتها.

قلت إنك كنت شاعرا، فهل لديك قصائد شعرية؟

 نعم نظمت أبياتا شعرية باللغتين الفرنسية والعربية في فترة دراستي بالثانوي، وكان اهتمامي بشكل أكبر بالهجاء (يضحك)، لا أدري ما السبب، لكن ربما تأثرت بأستاذ درسني في الإعدادي كان اسمه أحمد أكومي رحمه الله، وكان يلقي علينا باستمرار قصائد الهجاء والتي مازلت أحفظ بعضها عن ظهر قلب حتى اليوم، ومن بينها البيت الشعري الذي يقول فيه صاحبه: «لك يا عمر أنفٌ أنِفت منه الأنوف .. أنت في الشام تصلي وهو في مكة يطوف» (يضحك).

 أين درست مرحلة الإعدادي والثانوي بفاس؟

درست الإعدادي في «ثانوية مولاي رشيد» والتي التحقت بها عن عمر عشر سنوات فقط، بينما اجتزت الثانوي في ثانوية مولاي إدريس بعد تخصصي في العلوم الرياضية. أما التعليم الابتدائي فتوزع بين مدرسة الصفاح ومدرسة السلاوي التي كانت تتواجد في المدينة الجديدة لفاس.

وفي أي حي بفاس ترعرعت؟

حي الشهداء المجاور لثانوية مولاي رشيد.

كل هذه الأماكن التي ذكرت طرأت عليها تغييرات، فحي الشهداء أصبح يضم منذ أكثر من ثلاثة عقود مدرسة ابتدائية تحمل نفس الاسم، وهي مجاورة لمدرسة «كرواوة» العتيقة، بينما ألغيت مستويات الإعدادي بثانوية «مولاي رشيد» التي أصبحت تأهيلية فقط، لكن يبقى الجميل في مسارك الدراسي هو أنك خريج المدرسة العمومية المغربية.

صحيح، كما أني درست السنة الأولى بكلية العلوم في جامعة محمد الخامس خلال الموسم الجامعي (1971-1972).

 لماذا اخترت الهجرة إلى فرنسا؟

تلك قصة تستحق أن تَصدر في كتاب. كان لدي حلم منذ الصغر أن أصير مهندسا، لكني لم أرغب في ولوج المدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط، فاخترت الهجرة لفرنسا للالتحاق بإحدى مدارس الهندسة الفرنسية، وكانت البداية بالولوج إلى الأقسام التحضيرية للمدرسة العليا للهندسة بمدينة بوان، قبل النجاح في الولوج إلى المعهد الوطني للبوليتكنيك بغرونوبل الذي يعد أرقى معهد للهندسة في فرنسا، لأتخرج منه مهندسا ثم في مرحلة ثانية دكتورا.

هل ساهمت الاضطرابات التي كان يعيشها المغرب في تلك الفترة في تشجيعك على الهجرة؟

طبعا. لم تكن الأوضاع هادئة في المغرب في تلك الفترة، وذلك كان أحد أسباب هجرتي إلى فرنسا.

البعض يرجع تقهقر البحث العلمي في المغرب إلى ضعف التمويل، ويتذرعون بمحدودية قدرات الدولة التي لا تستطيع صرف ميزانية أكبر في البحث العلمي؟

الاهتمام بالبحث العلمي يَفترض وضع سياسة وطنية، ثم البحث عن مصادر تمويلها، وتلك مهمة الحكومة، لكن الحرص على استمرار الجامعة المغربية في إطار مغربي-مغربي وتجاهل هجرة العقول لن يؤتي شيئا، وهذه الأسطوانة التي ذكرت أسمعها منذ أزيد من ثلاثين سنة دون أن يحصل تغيير جوهري في طريقة تعاطي المغرب مع البحث العلمي. صحيح حاول وزراء في السنوات الماضية إحداث تغيير، لكنهم لم يمتلكوا القدرة والإمكانيات اللازمتين.

بالنسبة للتمويل، لا يجب الاقتصار على الميزانية الحكومية، بل المطلوب جعل القطاع الخاص شريكا أساسيا في دعم تطوير البحث العلمي، على غرار ما يحصل في كل دول العالم، حيث يقدم رجال أعمال تمويلات لجامعات لتشجيع وتطوير أبحاث محددة، ولازلت أتذكر قيمة المنحة التي تلقتها جامعة كاليفورنيا التي كنت أنتمي إليها ـ على سبيل المثال ـ من رئيس مجموعة «أنتل» التي بلغت مليار دولار.

سيقول قائل إن أمريكا غنية، لكن يوجد في المغرب أيضا أغنياء ورجال أعمال لديهم إمكانيات مالية كبيرة، ألا يمكن إقناعهم لتمويل عملية استقطاب عالم مغربي أو أجنبي للاشتغال على أبحاث معينة سواء في الطب أو البيولوجيا أو الذكاء الاصطناعي أو غيرها؟

أنا حزين لغياب الجامعة المغربية عن قائمة الألف جامعة الأولى في العالم، ومتشائم بشأن حصول تغيير في المستقبل، نظرا لغياب أي ملامح جادة لتغيير الأشياء الموجودة، علما أن القرارات التي تهم تطوير البحث العلمي تظهر آثارها سريعة، ويمكن لوضع رجل واحد في المكان المناسب أن يغير وجه جامعة في سنوات قليلة، وهذا ما قامت به جامعة الأمير عبد الله بالسعودية، التي دخلت تصنيف المائة جامعة الأولى في العالم في ظرف خمس أو ست سنوات، حين أبرمت عقدا مع رئيس معهد التكنولوجيا بكاليفورنيا مباشرة بعد انتهاء عقده في الولايات المتحدة الأمريكية لرئاستها، وهو للإشارة فرنسي وليس أمريكيا لكنه كان رئيسا لجامعة في أمريكا، وكانت النتيجة أنه غَيَّرَ وَجهَ الجامعة السعودية بعد أن توفرت له الإمكانيات لتحقيق برنامجه.