كتاب (تكوين المفكر) لعبد الكريم بكار
التفكيير عمل شاق بل هو أشق عملية يقوم بها الإنسان، إنها أصعب من حمل الأثقال ومعاناة وعثاء السفر، ثم إن تشكيل العقل المفكر الواعي يحتاج زادا كبيرا من المعارف والتجارب، ولذلك تجد كثيرا من الناس يتركه خوفا من تلك المشقة، ولذلك ظل المفكرون رواد الأمم والمؤثرون في مسارات التاريخ والشعوب.
لكن سؤالا مهما ظل دون إجابة كافية، وهو: من هو المفكر؟ وكيف يمكن أن نصنع مفكرا أو نجعل من أنفسنا مفكرين، كتاب (تكوين المفكر ـ طرح عملي) للدكتور عبد الكريم بكار يحاول الإجابة على هذه الأسئلة مثيرا كثيرا من المسائل والإشكالات بدءا باللقب (مفكر) وانتهاء بتفكيك البنية المكونة له ومحاولة إعادة بنائها في مشروع تفصيلي عملي لا يخلو من عمق ووضوح.
يستهل المؤلف بمصارحة القراء أن كتابه ليس وصفة سحرية لصناعة مفكر، ذلك أن معرفة القواعد والأصول والأفكار مهما كانت ممتازة لا تصنع بالضرورة مفكرا ممتازا، فهناك شروط وحيثيات عديدة أخرى تؤثر في هذا الشأن تأثيرا كبيرا.
تدقيقات مصطلحية
يحاول عبد الكريم بكار إزالة الالتباس بين عدد من المصطلحات التي تبدو متداخلة لدى كثيرين مثل(المتخصص ـ العالم ـ المصلح ـ الداعية ـ المفكر إلخ) ويعطي تعريفا تقريبيا لكل واحد.
1 ـ المتخصص:هو طالب علم صرف قدرا من عمره في دراسة تخصص من التخصصات العلمية.
2 ـ العالم: هو شخص برع في تخصص من التخصصات حتى فاق أقرانه أو صار بين المتفوقين من أقرانه.
3 ـ المصلح:هو شخص لديه رؤى وأفكار إصلاحية ذات طابع سياسي أخلاقي اجتماعي.
4 ـ شخص لديه علم وفكر وهم إصلاحي، وعمله الأساسي هو التبليغ والتذكير والهداية ودفع الناس في طريق الإصلاح.
5 ـ المثقف:شخص تجاوز تخصصه الأساسي ووسع دائرة اهتمامه على صعيد القراءة والمطالعة، وعلى صعيد التأثير.
6 ـ الفيلسوف: شخص يبحث في مسائل وقضايا كلية ويحاول اكتشاف قوانين وسنن الوجود على مستوى الطبيعة المادية وعلى مستوى المجتمع الإنساني.
7 ـ المفكر: يتردد بين صناعة المفاهيم وبلورة الرؤى واستخلاص العبر وكشف السنن وبين إصلاح الواقع وتشخيص الأزمات التي يعاني منها الناس.
من صفات المفكر
بعد تقديم هذه الفروق يناقش المؤلف الصفات اللازم توفرها في المفكر، ويقوم بنقاش كل واحدة من هذه الصفات وشرحها، وهي:
1ـ حب المعرفة والاحتفال بالجديد: فالمفكر لا يقبل الوقوف عند نتيجة معينة، إنه في بحث دائم عن الجديد، ويقدم هنا جواب انشتاين حينما سئل: ماهو الفرق بين وبين الإنسان العادي؟ فأجاب:إذا طلبت من الإنسان العادي أن يبحث عن إبرة في كومة قش، فسوف يتوقف عن البحث حين يعثر على الإبرة، أما أنا فسوف أقفز على كومة القش بحثا عن الإبر المحتملة، وكقول أحد السلف: ذلك راي رأيناه بالأمس وهذا رأي نراه اليوم.
2ـ الاستقلالية: وتعني عنده التحرر من القيود الذهنية والاجتماعية التي تؤثر على منهج التفكير ومساره ونتائجه، ويحدد ثلاثة قيود يلزم التحرر منها، وهي:
أ ـ قيد المحيط: ذلك أن لكل بيئة مسلمات ومفاهيم ومعلومات وعادات تمثل إطار يوجه الذهن للتفكير داخله، ودور المفكر هو أن ينعتق من ذلك الإسار الذي يفرضه المحيط.
ب ـ قيد الانتماء: حيث أن الانتماء لحزب أو قبيلة أو جماعة يفرض إطاره المرجعي على التفكير ولا يساعد على الإخلاص للحقيقة والموضوعية في المواقف والآراء، وقد عانت الأمة خلال تاريخها من التفسير الإديولوجي لتاريخها وتراثها.
ج ـ قيد الذاكرة: حيث أن الذاكرة تثير مشكلات عدة في وجه العقل وتحاول فرض نفسها، وهنا تنبغي الموازنة بين الحفظ (الذاكرة) وبين العقل (الفكر الحر)، إننا نحتاج معرفة الكثير عن الأجيال السابقة ونحتاج من أجل تفكير سليم للتحرر منها في نفس الوقت، نحتاج أن نغترف من الذاكرة دون أن نبلل ثيابنا بها.
3 ـ الشعور بالمسؤولية: يحتاج المفكر وهو يقوم بعملية تفسير الواقع وصياغة الرؤى المستقبلية للمجتمعات أن يتحلى بكثير من المسؤولية، وأن يدرك قيمة الكلمة وخطرها في نفس الوقت، فيحرص على الاستقصاء والدقة والتريث قبل إطلاق الأحكام حتى لا يوقع المجتمع في دوامة من الارتباك والفوضى.
4 ـ التركيز على الكليات: إن من أهم صفات المفكر هي أنه يقوم على صياغة الكليات وتركيبها من جزئيات كثيرة، إنه لا يحفل بالجزئيات إلا من أجل عبورها إلى الكليات، بل إن العبور والتجاوز بشكل عام هو أحد مشاغل المفكرين الرئيسة.
5 ـ الوفاء للقيم الكبرى: إننا إذ نطالب المفكر بالتحرر من قيود البيئة والانتماء والذاكرة فإننا نطالبه أيضا بالوفاء للقيم الإنسانية الكبرى التي جاءت بها الرسالات وأيدتها الفطرة الإنسانية، ومن تلك القيم الكبرى: الحق والخير والجمال، ورغم الإقرار بنسبية هذه القيم إلا أن مجرد الالتزام بأصولها والعزم على الدفاع عنها يوفر للمفكر نوعا من الاستقامة السلوكية ويقف صمام أمان دون انجرافه ونهايته.
تلك أهم الأفكار التي تعرض لها المؤلف في الفصل الأول من كتابه، وهو كتاب مليء بالأفكار والمعلومات المهمة حول الفكر والتفكير كما هو مادة دورة علمية تدريبية على صناعة المفكرين، ولعل الله يسمح بقراءة في بقية فصول الكتاب في لاحق الأيام.