المدير برهون حسن 00212661078323
خلخلت الانترنت طرق الكتابة والقراءة، وأثرت فيما توارثه الإنسان منذ آلاف السنيين، وانعكس ذلك على وسائل المعرفة وطرائق التفكير، فإذا كان الإنسان ابتكر الكتابة قبل أربعة آلاف سنة، مستخدما الرموز، إلا أنه كتب بالأبجدية قبل ألف سنة من الميلاد.
وقد شكلت الكتابة قفزة في تاريخ الإنسانية مكنت من حفظ تراثها، وكانت خطوة كبيرة نحو تحرير الذاكرة من ثقل الحفظ، ثم جاءت الطباعة عام 1450م مع مطبعة “غوتنبرغ”([1]) لتشكل قفزة أخرى في تاريخ الثقافة الإنسانية، سواء في إنتاج النصوص أو توزيعها، لكن مع الانترنت تخلخلت الكتابة في أقل من عقدين من الزمان بطريقة شكلت انقلابا في تاريخ الإنسان، فكانت ثورة في إنتاج النصوص وتوزيعها ونوعيتها؛ بل ووظيفتها.
لقد انتقلت الثورة الرقمية بالإنسان من عالم الورق إلى اللامادي، وتميز العصر الرقمي عن المطبوع بميزات تتعلق بالحجم والتخزين والسعة والقدرة على الحذف والإضافة والقابلية للأرشفة، وطرق القراءة التي أصبحت أكثر سرعة وتفاعلا، لكنها أصبحت أكثر سطحية وتشتتا، فلم تعد القراءة لحظة انعزال، بل صارت لحظة تبادل وتواصل مع الآخرين.
ويأتي كتاب “الثورة الرقمية..ثورة ثقافية؟” تأليف “ريمي ريفيل” ترجمة “سعيد بلمبخوت”، والصادر عن عالم المعرفة في يوليو 2018 في 245 صفحة، ليناقش تأثير الرقمنة على الثقافة، سواء في طريقة إنتاج النصوص أو توزيعها، أو طبيعة التفاعل الإنساني على الانترنت، ومن ثم فالكتاب مهم للمتخصصين في الإعلام، والثقافة، وعلم النفس، والتربويين.
عصر الرقمنة
العصر الرقمي لا يتجاوز عمره العقدين من الزمان، عصر تجاوزت فيه الرقمنة مجال التقنية إلى المجال المعرفي والإنساني، فالظاهرة متعددة السياقات، والأبعاد، والتكنولوجيا الرقمية ذات قوة وسرعة في الانتشار غير مسبوقتين في التاريخ البشري
الكتاب يشير إلى وجود إرهاصات بنمو أشكال جديدة من الإبداع في المجال الثقافي تستقطب اهتمام الكثير من البشر، سواء على مستوى الشكل أو المضمون، مما يطرح فرضيات حول إمكانية حدوث تجديد ثقافي في ظل تلك المتغيرات، حيث بات من اليسير في ظل الرقمنة الوصول إلى المضامين الثقافية.
والحقيقة أن التقنية ليست محايدة، لأنها تفرض استعمالا معينا بغض النظر عن الاعتبارات الثقافية والاجتماعية ومدى تنوعها، أي أنها تسير بالإنسان نحو الكونية الواحدة، والإنسان متنوع في ماضيه، وواقعه، وبيئاته، وأزمنته الحضارية.
والتقنية تفرض قواعدها على المجتمع، وتشير الدراسات أن مصممي وسائل التقنية من أول وهلة لديهم نظرة معينة حول المستخدمين الافتراضيين، فتوقع الاستخدام يكون مسجلا مسبقا في الجهاز المبتكر، والخبرة تشير أن الوسيلة المستعملة تهيكل الفعل.
اقتصاد المعلومة
تتميز التكنولوجيا الرقمية بخصوصية تجعل من المستخدمين مستفيدين ومنتجين للمحتوى الإعلامي في نفس الوقت، وتتميز الصناعة الثقافية أنها أصبحت أكثر ارتباطا بوسائل الاتصال والتواصل والانترنت، كما أن الجهات المهيمنة على الصناعات الثقافية هم مالكو وسائل الإعلام الجديد، والتي تكون حاضرة لبث مضامين ثقافية ليست من إنتاجها.
لقد أسهم ازدهار الانترنت بشكل كبير في تغير شكل المؤلفات ومحتوياتها وسهل توفير المضامين الموسعة، وسها انتشار المعلومات، كل هذا أدى إلى ما يمكن تسميته “اقتصاد المعلومة” هذا الاقتصاد القادم يتميز بكون النشاط الفردي يؤدي دورا ذو أهمية، لكن تلك الحرية الظاهرية تخفي وراءها استراتيجيات تجارية فعالة، ومنطق تسويقي واضح.
وتشير الدراسات الحديثة أن الشركات: “أبل” و”أمازون” و”جوجل” و”فيسبوك” و”سامسونج” و”مايكروسوفت” تسببت في تغيرات جذرية أدت إلى خلخلة الرأسمالية العالمية.
وفي ظل السوق الرقمية هناك وفرة في العرض الثقافي غير مسبوقة، وفي ظل هذه الوفرة يجري التركيز على بعض المنتجات دون غيرها؛ خاصة المنتجات ذات الشهرة أو التي يشارك فيها نجوم، وهؤلاء النجوم والمشاهير لم يعد يحددهم النقاد التقليديون، حيث جرت خلخلة لتأثير هؤلاء النقاد، ولكن يجري التقييم وفق تقنيات أخرى مثل: أعلى المبيعات، وبالتالي أصبحت الشهرة للفنان أو المبدع مرتبطة بالتقنية وتجري بشكل آلي قد يتم فيه التلاعب بالنتائج وفق آليات معينة.
لقد أصبح “الرقم” هو الذي يحدد الشهرة، وهو الحاكم للعملية الإبداعية، وأصبح الهدف هو جذب انتباه رواد الانترنت، وهذا الاقتصاد الثقافي ينتقل إلى جميع قطاعات الثقافة والفن وفق منطق الخدمة في إطار عرض شامل.
وفي السوق الرقمية يُستهدف أكبر قدر من الناس، وذلك بالتوجه إلى كل فرد على حدة وفق رغباته التي يجري تحديدها عن طريق أجهزة تقنية من خلال تتبع عاداته وقائمة بحثه على الانترنت وذلك لتحديد رغباته، ويجري استهداف الزبائن المحتملين من خلال اهتماماتهم، ومن خلال الربط بين الإعلان والرغبة، وتلك الحالة من استغلال المعطيات جعلت خبراء التسويق يستبقون رغبات الزبائن، بل سعوا إلى خلق مسارات لاستهلاكهم وتوجيههم نحو مشتريات بعينها، بل يتم في بعض الأحيان استخدام المتعة في تلك العملية التسويقية.
وقد تنبه المسوقون إلى ضرورة أن تكون الخدمات بجانب الرغبات والتطلعات والحاجات، وهذا جعل المنتجات الثقافية قيمتها غير مرتبطة بالتكلفة الإنتاج أو التوزيع، ولكن وفق الاستهلاك باستقبالها.
تلك المنافسة الجديدة بدأت تفرض على الناشرين ومنتجي السينما وغيرهم ضرورة الإعلان عن منتجاتهم وفق قواعد السوق الجديدة، فالشركات التي تجمع المضامين عن المستخدمين (جوجل وفيسبوك ويوتيوب) من خلال تقديم خدماتها بالمجان، ثم تستخدم بيانات المستخدمين وتطلعاتهم وحاجاتهم وتقوم بضخها وبيعها من جديدة لشركات تصل بها إلى ذلك الجمهور لتحقيق أهداف تسويقية ومكاسب اقتصادية.
ومن هنا، فالغرض من المجانية هو جذب أكبر عدد من المتصفحين لرفع مداخيل الإعلانات، والتمكن من اقتراح مواد تجارية، بعد معرفة أذواق واهتمامات المتصفحين.
الرقمنة والثقافة
خلخلت قنوات البث الرقمية القطاعات الثقافية التقليدية، وزعزعت منطقها الوظيفي، وأثرت في طرق توزيع المضامين، وساهمت في إعادة تشكيل عميق للمشهد الثقافي.
وفي ظل اقتصاد المعلومة لم يعد متصفحي الانترنت مجرد مستهلكين أو زبائن، بل أصبحوا في أعين المنتجين مروجين للمعلومات، وهو ما يحدد رواج الأعمال في الساحات الثقافية الرقمية، حيث أصبحت توصيات الأصدقاء أكثر تأثيرا من تقييمات الخبراء والنقاد .
وفي ظل الوفرة في العرض فإن الانتباه أصبح مصدرا نادرا بشكل متزايد، لذا يجري جذب انتباه الجمهور بتقنيات واستراتيجيات أخرى لجذبهم لتصفح صفحات ومواقع معينة، وأصبح مبدأ “المهم هو الملاحظة” وليس من الضروري أن يكون العمل إبداعيا أو أصيلا، متصاعدا على شبكة الانترنت، فصارت الرؤية والمشاهد هي رأس المال على الانترنت.
وعلى المستوى الفردي أصبح اهتمام الفرد منصرفا إلى أن يكون أكثر مشاهد من الآخرين، وهذا الأمر قابل للقياس، وهنا تحتل الصورة الثابتة والمتحركة مكانا متقدمة قبل الكلمة المكتوبة، وتحول المرئي ليكون هو الأساس في المنتج الثقافي، واستطاع هذا التوجه أن يبرز مغمورين إلى مرتبة الشهرة، رغم ضآلة محتوى ما يقدمونه ثقافيا أو إبداعيا.
وهنا خضعت الثقافة لمنطق التسليع، وربما يقود ذلك إلى إفقار ثقافي، ومنذ أصبح تقييم المنتج الثقافي أو المثقف والفنان يتم من خلال آلية الرقم على الانترنت، أصبحت سوق تصنيف الكتاب والمبدعين متصاعدة، وتم اللجوء إلى استراتيجيات لما يمكن تسميته “بيع السمعة” وهنا ابتعدت بعض الشركات مثل “جوجل” عن موقف الحياد لتتدخل في وضع ذلك الترتيب أو التصنيف، ونشأت “سوق سوداء للشهرة” يجري بيعها والتلاعب فيها.
وفي هذا المشهد الرقمي المرتكز على ثقافة الرؤية، والتوصيات، والاستراتيجيات التجارية، فإن هناك عدم عدالة في الاستفادة من المنتجات الثقافية، لكن من ناحية أخرى هناك هوس على الانترنت بعرض الذات، وطغيان المرئي، وهناك اقتراب من ثقافة كشف المستور، وهو ما يؤدي إلى الاستغلال المكثف للخصوصيات، فالإنسان على الويب يسعى إلى التعبير عن ذاته مع السعي إلى اعتراف الآخرين، لذا يهتم بنشر الصورة الجميلة عن نفسه ومناسباته، لتأكيد مصداقية سعادته أو تميزه عن الآخرين، وهنا تفقد الصداقة محتواها من الناحية الاجتماعية.
[1] الصين ابتكرت الحروف المتنقلة عام 1040 ميلادية، أي قبل مطبعة غوتنبرغ بأربعة قرون، لكن الابتكار الصيني لم يكتب له التأثير في التاريخ الإنساني.